الثلاثاء، 24 فبراير 2009

قراءة / د.صلاح نيازي



إعادة تشكيل قرية عراقية.. في مدريد

زمن الحروب والمنافي في «الفتيت المبعثر» المترجمة للإنجليزية

صلاح نيازي

تبدأ رواية «الفتيت المبعثر» بفكرة غامضة مثيرة :«غادرتُ بلدي، متبعاً خطوات محمود، باحثاً عنه، حالماً بأنْ نفعل شيئاً ما، ونصبح رجالاً، يستحقون الاحترام كي تبحث عنا ـ فيما بعد ـ نساء مثل ابنة عمّي وردة التي تنقّلت بين الأزواج حتى انتهت باسماعيل الكذّاب»
مغادرة راوية القصّة، مغامرة بحدّ ذاتها، فمحمود رحل ولكنْ ما من أحدٍ يعرف عنه شيئاً.
السفر مهمّ كذلك، لأنه عن طريقه فقط سيكون «من الرجال الذين يستحقّون الاحترام»، الذي لا يرتبط إلاّ بالنساء، وكأنّ تلك القرية خامدة هامدة، لا ينجح فيها إلاّ مَنْ غادرها. للنساء في هذه القرية، أهمية استثنائية، لأنّهنّ الوحيدات اللواتي يمنحن الاحترام.
لكنْ مَنْ هو محمود؟
«لم يكنْ يعني شيئاً لأحد»، حتى حينما غادر متسلّلاً، لم يفتقده إلاّ أمّه التي يمرّ محمود على بالها بتقطّع.
يتسلّل الراوية ليلاً عبر جبال الشمال متبعاً الطريق الذي اتبعه محمود، مع فارق مهمّ، فالشاحنة التي كانت تقلّ الراوية معطّلة الأضواء، وسائقها سكران.
يقول الراوية في مقطع تالٍ أثناء الرحلة :
«نظرث إلى التماعات ماء عيون الجبال والشلاّلات المتدفقة وسط الصخور والشجيرات المتعلقة بسفوح الجبال كأطفال استمسكوا بظهور أمّهاتهم. وعلى القمم يشعّ الثلج الأبيض مثل قبّعات فضية... فقلتُ لنفسي: إنها جنّة أخرى في العالم».
هذا هو المشهد الأخير الذي رآه راوية القصّة قبل أنْ تتوالى عليه الأعوام، من بلد إلى بلد في المحطات. لا غرابة في ذلك لأنّ المحطات «وجدت للنوم والانتظار والنهايات».
بالإضافة إلى ذلك، فإنّ المقطع أعلاه، يترك في ذهن القارئ، كما ترك في ذهن الراوية، طفولة متشبثة بأمومة (كأطفال استمسكوا بظهور أمهاتهم) وصورة (جنة أخرى في العالم). ما الذي سيكون من أمر هاتيْن الفكرتيْن؟
يجد راوية القصة نفسه في خضمّ لغة أجنبية تحاصره. الهواتف مقطوعة ببلده. الرسائل غير مضمونة الوصول. ما من أخبار. ولكونه وحيداً تستفحل في رأسه تداعيات من الهواجس :«هل شُفِيتْ أختي ربيّة؟ ماذا حدث لابن عمّي المحاصر في الجنوب؟ كيف يعيش جارنا الذي قُطِعتْ ساقه في الحرب؟».
هكذا حمل الراوية من قريته همَّيْن : همَّ المرض وهمَّ الحرب.
يبدو أن اجترار الذات يوماً بعد يوم يوحي بعدم أهمية صاحبها. عندئذ يتقلص وينكمش ويتدنى من منزلة إلى منزلة. يُذِلّ نفسه أوّلاً حتى لا يجد ضيراً في إذلال الآخرين له.
على هذا يتدنى الحوار إلى امراة ووسيطها والمغني يوسف عمر وأغنيته البذيئة «داود اللمبجي». وهذه أمور لا علاقة لها بإسبانيا، ولا يمكن أن تشكّل جسراً من أيّ نوع، بين الوافدين والسكّان الأصليين.
راوية القصة، ربما بسبب عدم معرفة اللغة، ينكمش عمّا يحيط به. يصبح جزيرة خاصة، منفصلة ومتصلة في الوقت نفسه.
بهذه الحيلة الفنّية يُحيي راوية القصة قريته، قطعةً قطعة. فإذا بها قرية، وليست كالقرى، ففيها «نبتت أوّل شجرة سدر وكانت تضيء ليلاً». تقع القرية على نهر دجلة، وفي الضفة المقابلة، قلعة آشور. «في وسط النهر جزيرة صغيرة مكتظّة ببنات آوى والذئاب وأعشاش طيور الدراج وسط أشجار الطرفة حيث يتسللّ الصبية ليلاً لصيدها نائمة على بيضاتها، فيصيدون العشاق النائمين على الرمل ويخبرون القرية».
أعطى الراوية في هذا المقطع بعداً دينياً ـ السدرة، وبعداً تأريخيّاً ـ قلعة آشور. بهذه الوسيلة أصبحنا أمام قرية ذات جذور تميزها عن غيرها. أما لصوص الليل الأبرياء، لصوص بيض الدرّاج، فتقودهم مغامراتهم إلى ما هو أشدّ خطورة في الفضائح من حيثُ لا يعلمون.
قد لا تكون الجزيرة هنا رمزاً قصده المؤلف، ولكنها عالم منفصل متصل كما قلنا، قد يمثّل عالم الغرائز الطبيعية، في الليل في الأقل.
في الليل لا بدّ من شهرزاد. نساء القرية على عكس شهرزاد، يتبادلْن َ الأخبار صباحاً، على تنانير الخبز: «قالت عمشة وهي تنشر فراش نومها المبلّل على سطح الدار : لقد بال عليّ زوجي الليلة أيضاً. ثُمَّ تُضيف على لسانه، بأنّ الأطباء لم ينفعوه، ولا الدراويش». «ابن عدلة العرجاء وجد ابنة العريف عبد الرحمن مع ابن سعيد العطار ليلاً في الجزيرة، والشيخ صالح يأمر بتزويجها وستر عرضها، وابراهيم المغني يؤلّف عنها أغنية يرددها في الأعراس فيكرَّم بعنز بجدييْها». على هذه المثابة، وثمّة تفاصيل أخرى مثيرة للغاية، يُعيد محسن الرملي تشكيل القرية، بينما إسماعيل «يتنبأ بأنّ القرية ستستقبل غداً جثثاً أخرى من أبنائها الذين قُتِلوا في الهجوم الأخير على الجبهات، مع ذلك فالقرية لا تشلّها فجائع الحرب، ففرحان «يفكّر في الزواج من عائشة» وهي الزوجة الرابعة «ليجدّد بها فراشه»، وقد صبغ شيب رأسه ولحيته حال سماعه بمقتل زوجها في الحرب».
يبدو أنّ أهالي هذه القرية، تواطنوا بمرور الزمن، على خلافاتهم الصغيرة، وتآلفوا مع الطبيعة وحيواناتها، إلاّ أنّ شيئاً واحداً طرأ عليها نتيجة الحرب. ذلك ان فئة منهم يموتون «بعيداً عن القرية».
جرتْ على هذه القرية، وهي كأية قرية أخرى منكفئة على نفسها بحكم الظروف، تطورات خاصّة لا يفهمها الغرباء، حيث تتخذ الموجودات الحيّة والجامدة أسماء ودلالات مختلفة. «للناس أسماء كثيرة، منها ما يُطلَق بعد حادثة ما فيشتهرون بها، أو يقال مزحة ويستمر، ومنها ما يظهر فجأة ويختفي عند حلول غيره...».
يبيّت الراوية للقارئ حيلة غريبة لشدّه. إنّها لا أكثر من قنفذ لا حيلة له في الظاهر، إلاّ أن يتكور على نفسه لدى كل طارئ خارجي. كرة شوكية ملمومة على نفسها. أشواكه غير مضمونة إذا انتفض. استقرّت بعض تلك الأشواك في رقبة عجيل. يقول الراوية :«عجيل زوج عمّتي»، الدم ينزف من تفاحة آدم. وبعد حين انقطع النزيف، إلاّ أنّ ذكرى تلك الحادثة لم تنقطعْ حتى حين بلغ عجيل سبعين عاماً.
أمّا قاسم وهو ابن عجيل، فقد «قضم الجرذيّ أذنه، وهو نائم، بعد أن حكّها فور نهوضه من صحن الثريد المنقوع بالسمن الحيواني».
من خلال قاسم نتعرّف على زوجته حسيبة، ابنة عمّه السليطة اللسان، القادرة بشتائمها على تهجير مدينة «لكنْ ما حبّب حسيبة إلى قاسم»، كما يقول: «إنها رائعة... إنها امرأة دائمة الاشتعال، دائمة التحفّز، دائمة الاقتتال، دائمة التوهّج، دائمة الخضرة، وأنا فنّان أحبّ المغامرة، ولا أجد لذّة في الحياة إلاّ في تلك الأجواء الخطرة بجمالها. مثل تسلّق الجبال أو مصارع الثيران، أو مثل لاعب السيرك، فمتعة المشي على الحبل هي المتعة الوحيدة... ومثل مروّض الأسود والنمور، إنّه معرّض للافتراس في أية لحظة... وحسيبة نمرة لا تهدأ. تجعلني أعيش السنوات كتلك اللحظة، باحتراق دائم ...على حافة البقاء والزوال».
هكذا قدّم لنا الرملي بانسيابية محببة شخصية قاسم، فناناً في تلك القرية المنكفئة على نفسها، ومن خلال الأسباب التي قدّمها للزواج من حسيبة، ندرك أننا أمام فنان بعيد عن العفوية. فنان يعرف ما الذي يجعل الفنّ أصيلاً وأعمق تأثيراً.
بالإضافة إلى ذلك، فإنّ ظهور فنان كقاسم في القرية، يعني أن القرية ترتبط الآن من خلال الفنّ، بالعالم الخارجي، وبالتراث والمستقبل. يعني كذلك من وجهة نظر سياسية، أن مصير هذه القرية مرهون بالوضع العام.
بدخول السياسة، اتخذت حتى الاختلافات الطفيفة أبعاداً مخيفة، فالحاج عجيل بدافع وطني خالص، صاح في خطبة له :«إني أعبد وطني. إني وطني»، فإذا بمؤذن الجامع وإمامه يقول بغضب: «إخرسْ، أعوذ بالله منك ومن وطنك الذي تعبد».
قالت له ألسنٌ أخرى :«هل خرفتَ يا رجل! تكفر وأنت في غروب عمرك، قَدَمٌ في القبر وقَدَمٌ في الدنيا..!».
جرّ الفنّ على قاسم، الموت. لقد أُعدم في وسط ساحة القرية لهروبه من الجيش. قال قاسم معللاً سبب هروبه إنّه يرفض الحروب جملةً وتفصيلاً. إنه لا يريد أنْ يَقتل، أو يُقْتَل، وما يحدث مهزلة لا يستسيغها.
يعود راوية القصة إلى محمود ثانية، إلى محمود بحيلة فنّية بارعة.
كان الراوية يعدّد الأبناء، ويصفهم بما عُرِفوا به بين الأصدقاء والأقرباء، وأبناء القرية. ثمّ يصل إلى محمود :«لعلّ أبلغ ما يُقال فيه، ما قاله والده : إنّه لا شيء. هذا الولد لا شيء إطلاقاً. إنّه آدميّ بلا ظلّ، ولكنه رقم في تعداد السكّان». ويقول عنه راوية القصّة:«كأنه بلا انفعال، كأنّه بلا رأس، عاديّ جدّاً، بل أكثر عاديّة من شخص عاديّ...إلخ».
يذكر راوية القصة أنه لا يتذكر محمود، ولا يدري لماذا يبحث عنه في بلاد الأجانب، ألأنه يريد أن يُفرح عمّته إنْ هو جاء به. قال الراوية:«جلّ ما أريده هو نقل عبارة وردة إليه حين ودّعتها في الليلة السابقة لخروجي: قلْ له أنْ يُصبح رجلاً يستحقّ الاحترام».
من غرائب الفنّ أنه إذا ما أُسيئت غايته لا يعود إلاّ بالوبال. كذا كان الأمر بين قاسم وبين أبيه الذي أراد منه أن يرسم صورة كبيرة للقائد، متعللاً أن ابنه استطاع أن يرسم كل شيء حتى الحمار. إلاّ أنّ الابن لا يتمكن، لأنه يكرهه. يستشيط الأب غضباً، لأنّه يؤمن «أن القائد هو الوطن، والوطن هو القائد»، ويعتقد كذلك، أن «المكان أغلى من الإنسان».
هذه المعركة الصغيرة بين الأب وابنه صغيرة فعلاً وعائلية. كيف توسّعتْ فاجتازت جدران البيت، وحدود القرية التي اتسعت «مقبرتها بفضل جثث أبنائها الملفوفة بأعلام الوطن، وأعلام أخرى ترفرف فوق شواهد القبور، بحيث استحالت مقبرتنا القديمة، إلى غابة من الرايات تنوح تحتها الأمّهات كلّ خميس».
بمرور الأيام، وباشتداد المعارك بات الوطن وطنيْن: وطناً ترسمه الحكومة في وسائلها الإعلامية وهو منتصر مؤزر، ووطناً يرسمه الفنان قاسم.
يشهد أبناء القرية مراسيم إعدام الفنّان قاسم.
هل نسينا عند هذا الحدّ أشواك القنفذ التي استقرّتْ واحدة منها في تفاحة آدم؟ انقطع النزيف، انقطع ألمها منذ سنين، إلاّ أنهما عادا من جديد مع سماع عجيل للرصاص الذي انهمر على جسم قاسم :«خيط الدم النازل من تفاحة آدم في عنق عجيل.. ذلك الخيط الذي عاود الظهور بعد أكثر من سبعين عاماً، بعد سماع الإطلاقة الأولى على جسد قاسم. صار عجيل يشعر بإبرة القنفذ تؤلمه على غير ما نسي...».
الغريب كلّ الغرابة، أنه بينما كانت الحياة تموت في القرية، أصبحت المقبرة الآن، ممتلئة بالحياة، اصبحت بمثابة مسرح جديد للأحداث. علاقات اجتماعية جديدة تعقد فيها. تنفيس عن الملل والحزن، وحتى مشاريع غرامية حارة. القرية تتقلص وتعتم، بينما المقبرة تموج وتموج وكأنها متنزّه. أصبحت المقبرة متنزهاً من نوع ما.
الموتى تحت التراب، قوى لا مرئية، ولكنّها تكاد تتحكّم بالمصائر. المقبرة هي المشهد الحيّ الوحيد في القرية تقريباً. ما بين القبور وحواليْها تولد حياة جديدة لم تخطر ببال أحد، من قبل، مثل خروج غصن يانع من لحاء قديم.
لنأخذ المشهد التالي.
إسماعيل، عازف ربابة، ولا شيء آخر. ما الذي حمله للذهاب إلى المقبرة؟ عُرِف بأكاذيبه. ولم يصدقْ إلاّ حينما تنبأ بانتهاء الحرب. يقول راوية القصة، إن عمّته كانت في المقبرة، حينما كانت تنوح بأفجع أنواع الشعر. وردة معها. «ودّ إسماعيل لو كان قد حمل ربابته معه، ليرتل لها أحزانها، وليبثَ معها أحزانه». حزمتان من الفجيعة تداخلتا في أغرب نواح.
إسماعيل يكشف عن خطة جهنمية. إسماعيل وهو داخل المقبرة، يزرع الامل في كلّ جسد وردة. إسماعيل سيثأر من القتلة. إسماعيل «رجل يستحقّ الاحترام»، في نظر وردة. وردة تطلب من إسماعيل الزواج.
كذا في هذه القرية تولد الحياة في مقبرة. القرية ذاتها تموت قليلاً قليلاً في الغربة أيضاً. حاول راوية القصة أن يحييها من جديد بمدريد، لكنه وجدها ميتة نسلاً نسلاً وبيتاً بيتاً. الأفجع حتى الطبيعة لم تعد طبيعة. يقول الراوية :«ساد الكون ظلام وثمة قمر ينير... كان عاديّاً أجرد مثل قطعة معدِنية كالحة ولا شيء فيه. المقبرة مظلمة والحقول، أما ظلام القرية فتثقبه المصابيح المتناثرة..».
مع تعتيم القرية بمدريد تتعتّم عينا عمّة الراوية بالماء الأزرق.
ـ «يا عمّتي انتبهي... سوف يعميك البكاء»
انطفأت الأضوية.
ما الذي يفعله الراوية بجثة هذه القرية في الغربة؟ أين محمود الذي كان يبحث عنه؟ لا جديد عن الوطن في الصحف. لا جديد في المنفى. راوية القصة نفسه بين حصاريْن. الأيام تتشابه وتتشابه.
يقول الراوية :«هنا في الأصقاع القريبة من غرناطة نتقاسم مع الفلسطينيين النحيب، نبكي كالنساء على أوطان لم نعرف المحافظة عليها كالرجال، وكم بصقنا على شواربنا في مرايا الغرب، «تفّو»، ثمّ انتهينا إلى حلاقتها جميعاً..».
تماماً كما انتهت القرية بأصوات متنافرة، قبل رحيله، يجد الراوية نفسه «محاطاً بالاسبان: الثرثرة والكلاب والدخان وأوراق الدعاية. تماثيل جميلة لا تعرف ماذا حدث هناك لعمتي».
راح راوية القصة يتسكع إلى ما لا نهاية، وكأنّ التسكع هو العلامة الوحيدة على أنه ما يزال حيّا بصورةٍ ما.
------------------------------------------------------
*نشرت في صحيفة (الشرق الأوسط) بتاريخ 6 ديسمبر 2006 العدد 10235 لندن

*وفي صحيفة (المدى) بتاريخ 14 كانون الأول 2006 العدد 833 بغداد

ليست هناك تعليقات: