الجمعة، 20 مارس 2009

شهادة عن أمي / محسن الرملي


شهادة:

لمحات من سيرة أمي

(شريكتي في صياغة شخصيات الأمهات في قصصي)

د.محسن الرملي

أنا البطن التاسعة ضمن تسلسل إحدى عشر بطناً، كما يطيب لأمي أن تسميها حين تتحدث عن ولاداتنا، نحن أبنائها، بما فينا الذين ماتوا في المهد، وكثيراً ما وقفت عند هذه التسمية (بطن) التي تفتح شهيتي لتعدد التأويلات.. وكأن أمي تعني بأنها قد أفردت لكل منا بطناً خاصة به ولم نخرج جميعاً من بطنها الواحدة ذاتها، أم أنها أرادت اتباع العرب في تسمية العوائل والقبائل بالبطون مما يعني أنها تشير إلى أنه ستتفرع منا، من بعد، بطوناً: عوائل وقبائل.. أم أنها تهدف إلى تذكيرنا بأننا من بطنها.. أم أننا مجرد بطون بالنسبة لها!. وحين نسألها عن التواريخ الدقيقة لمواليدنا تقرنها لنا بظواهر الطبيعة البارزة وأحداث تاريخية عادة ما تكون الحروب أو الانقلابات في الحكم، ذلك أنها لا تعرف التواريخ وأرقام الأعوام والأيام، ولا تعرف القراءة والكتابة. لذا تجيب: أنت ولدتك سنة الفيضان، وأنت في موسم الحصاد، وأنت في عام القحط، وأنت في أيام حرب فلسطين (ولا نعرف أي حروب فلسطين تعني)، وأحياناً تقرن تواريخ ولاداتنا بمقتل أحد ما في القرية أو بتاريخ شراء أو ولادة إحدى أبقارنا، أو ذبح ثورنا الأسود أو يوم ماتت حمارتنا الرمادية بالجدري.. ولكنها وإن كانت تجهل دقة التواريخ إلا أنها تسهب في سرد ذكرياتها عن حادث ولادة كل منا سواء أكان الأمر ليلاً أم نهاراً، ومن كانت حاضرة من نساء الجيران، ومن كانت القابلة وحكاية الأسماء وأسبابها التي لا تتدخل فيها عادة، لأن هذا الأمر يقرره أبي وحده. فالزمن بالنسبة لأمي شيئ مجرد. لذا تعمد إلى قياسه بربطه بالأحداث والملموس، خاصة المكان، لذا تصف أماكن ولادتنا بدقة.. فكيف كانت ولادتي؟.
كوني البطن التاسعة فهذا يعني أنها صارت متمرسة بالولادات وتجاوزت مخاوفها وإشكالاتها وخبرت أوجاع الطلق، لذا كانت لا تغير من جدول عملها، والذي هو في الحقيقة ليس بجدول لأنها تعمل دائماً، ليلا نهارا، ما لم تكن نائمة. حينها كانت تساعد أبي وأخوتي بطلاء سقف دارنا الطيني بالطين بعد أن قشرته أمطار الأشهر السابقة. آذار والشمس دافئة. أبي على السطح وهي خائضة حتى ركبتيها في حوض الطين المجبول (الجبلة) رابطة بطنها بحزام صوفي ينتهي بثلاث شراشب كبيرة تشبه نحلات ملونة كانت قد حاكته لها جدتي في حملها الأول. أنا في بطنها مكملاً إقامتي لتسعة أشهر. السيجارة في فمها وأبي يمد لها بالحبل من الأعلى سطلاً تملأه له بالطين ويرفعه.. هناك.. هكذا.. تقول: سقطت مني في (جبلة) الطين. ثم تضيف ضاحكة: ألا ترى أنفك كبيراً مفروشاً.. لقد سقطت مني على وجهك في الطين.
لكن أنفي ـ في الحقيقة ـ قد أخذته منها، مثلما أخذت الكثير فيزيائياً ونفسياً؛ أشبهها أكثر مما أشبه أبي. حجم الأنف، سواد العينين، صلابة الأسنان.. ومنها أيضاً أخذت دروس الصبر والتسامح وكراهة العنف. الميل إلى البساطة، قدرة التأقلم، التصديق والتعويل على النوايا. حاولت أكثر من مرة حثها على تعلم القراءة والكتابة التي أعرف بأنها تتمناها قائلة: كي أقرأ القرآن وكتب أبيك. لكنها تعقب متعللة بفوات القطار (علماً بأنها لم تر قطاراً في حياتها) أو بالمَثَل: "بعد ما شاب أخذوه للكُتاب".. لذا كانت تعوض ذلك بإهداء خيرة طبخاتها وأفضل زبدة لوالدها الحاج فاضل وعمها الملا سلطان مقابل كل إتمام قراءة للقرآن باسمها. حاولت إقناعها من هذا الباب ولكي تنوع في السور التي تقرأها في صلاتها لأنها ظلت تردد ثلاث فقط من قصار السور، التي لا تعرف غيرها، في صلواتها اليومية الخمس طوال حياتها. فأجابت: المهم في أي عمل وخاصة في الصلاة هي النية، واسمع هذه الحكاية يا بني: كان يا ما كان رجل بسيط يعيش من صيد السمك على شاطئ النهر، جاهل (مثلي) لا يقرأ ولا يكتب، فاخترع لنفسه صلاته الخاصة، يتوضأ ويفترش الرمل متوجهاً إلى القبلة، ينظر إلى السماء ويقول:" وجهت وجهي إليك.. وكس أم الذي يكذب عليك"، ولأنه لا يحفظ حتى سورة الفاتحة فقد اخترع لنفسه فاتحته:"الفاتحة مفتوحة، والميجنة (الهراوة) ملكوحة (ملقاة)/ الميت راحت روحه، والطيب (الحيّ) يأكل رغفان (أرغفة)".. ثم يؤدي الحركات التي يعرفها.. وهكذا على مدى أعوام حتى مر ذات يوم وسط النهر زورقاً لصيادين غرباء فشاهدوه يصلي بحركات ركوع وسجود خاطئة. اقتربوا منه وراحوا يعلمونه الصلاة الصحيحة، أطالوا معه حتى تأكدوا من تعلمه لها فودعوه واتجهوا بزورقهم إلى وسط النهر. توجه هو سعيداً إلى صلاته، ولكنه ما أن وجه وجهه إلى القبلة حتى انتبه إلى أنه ـ كعادته ـ قد نسي ما علموه إياه، فالتفت خلفه إلى زورق الصيادين وسط النهر ثم انطلق منادياً راكضاً صوبهم ـ على الماء ـ حتى وصل إليهم فأخذتهم الدهشة. قال: لقد نسيت الصلاة التي علمتموني إياها. فقالوا له والدمع في أعينهم بعد أن رأوه يمشي على الماء: عُد إلى صلاتك السابقة فهي أصح من صلاتنا.
هكذا كانت أمي تعطي دروسها عبر الحكايات. حكايات قبل النوم، وحكايات الصحو وسهرات الشتاء حول الموقد.. ولكل حادث حكاية عندها ولكل درس حكاية.
رسومي الأولى قبل دخولي إلى المدرسة كانت محاولات في تقليد الوشم على جسدها. كنت أجبرها أن تثبت كفها على البساط واضعاً دفتري جوار الكف أنقل ما عليها من نقوش الوشم، كفها الأخرى فيها السيجارة فتراوح بين كفيها، قدميها، وحين يأتي دور نقل الوشم في وجهها أصيح بها لا تتلفتي. شفتها السفلى زرقاء تنزل منها زخارف على الحنك؛ نقاط وخطوط متداخلة وأزهار وشم صغيرة، أنزل مع العنق مسنداً دفتري على صدرها، وحين أريد النزول أكثر لمتابعة نقل خطوط الوشم النازلة محاولاً فك فتحة صدر ثوبها متوقعاً الوصول إلى بطنها. كانت تنتفض، تضرب كفي وتبعدها، فأصيح: أريد أن أنقل الباقي. وتجيب بحزم: والله لو تطلع روحك، أقول لك (ماكو) بعد وشم، لهنا وخلص. فأصر قائلاً: لا.. أكو.. دعيني أرى وإلا سـ (أخبص) الدنيا بالصياح. فتنهض: أقول لك ما كو.. يعني ماكو أنت زمال ما تفتهم؟.
كل الأمهات يتشابهن في عظمتهن فما الذي يمكن أن يكون خاصاً بأمي.. بالنسبة لي كل شيء هو فريد من نوعه في أمي، وإن لم أكن مصيباً في ذلك، لكنني سأحاول ألإشارة إلى ما أظن أنه خاص فعلاً وابدأ بالاسم، حيث لأمي اسم لم أسمع بأن غيرها يحمله في العالم، اسمها (طفلة) وكان أخي حسن يمزح معها دائماً: أما زلت طفلة؟.. متى تكبرين؟.. تضحك أمي وتقول: أنا أحب أسمي والاسم مجرد إشارة. أمي هي الابنة الوحيدة لجدتي (وضحة)، لذا فإن جدي لم يستطع الصبر حتى النهاية بلا أبناء آخرين فتزوج امرأة أخرى وانتقلت جدتي مع أمي بعد زواجها إلى بيتنا حتى وفاتها دون أن يخل ذلك بعلاقتها بجدي أو بامرأته الجديدة وأبنائه.. وأمي كذلك بحيث لم أعرف إلا متأخراً بأن أخوتها هم من أم أخرى لأنها كانت تتعامل معهم بحميمية فائقة. وأذكر أنها كانت تنادي زوجة أبيها الأخرى بأمي وعلمتنا مناداتها بجدتي ورعتها في كبرها قعيدة الفراش حتى وفاتها. لأمي سعة صدر مدهشة وصبر أيوبي. وإذا كانت مهمة إرضاء الجميع تكاد تكون مستحيلة أو هي مستحيلة فعلاً، فإن أمي قد حققت هذا المستحيل: أرضت أبي الرجل القوي الشخصية والمزاج والعصبية، أرضتنا على اختلاف عوالمنا، أرضت المجتمع بأدائها لكل تقاليده، أرضت والديها وأخوتها والجيران والضيوف وحيواناتها التي كانت تعاملها كما تعاملنا؛ تسميها، تطعمها ورأيتها أكثر من مرة تدثر بعباءتها الصوفية عجلاً يرتجف من البرد أو تبكي لفراقها نعجة.. وأعتقد أنها قد أرضت ربها أيضاً.
..الآن تدهشني هذه القدرة على نكران الذات فلم أعرف لها مشاريع خاصة وأهداف أو رغبات خاصة بها.. لقد انتصرت على (الأنا) في داخلها وهذا أصعب انتصار، فرغباتنا وأحلامنا وأهدافنا كانت هي ما تريد، تفرح لتحقيقنا إياها وتشاركنا انتكاساتنا.. يا إلهي.. ما أصعب وأعظم صوفية أمي في تمكنها من إذابة (الأنا). كم تأملت قدرتها على التوفيق بين حشد من الشخصيات المختلفة في بيت واحد! وكانت تدير كل ذلك بصبر ومحبة.. الآن وبعد معايشتي للديمقراطية في الغرب أميل لتسمية تلك القدرة والروحية بالديمقراطية.. وأقول: من رحابة روحية أمهاتنا يمكن أخذ المفهوم الديمقراطي وتعلم قبول الآخر ومحبته مهما اختلف. كانت تقول:" خير الأمور تلك التي تعجب أصحابها". وما زال الكثير من عبارتها حتى اليوم يصحبني ومنها تلك العبارة التي أكاد أتبناها بمثابة شعار لي في التعامل مع الآخرين والتي أجد فيها إنسانية عميقة: اسمع يا بني.. ابن آدم لا يُؤكَل ولا يُشرَب وإنما يُعاشَر.. أي لا تنظر إلى لونه أو شكله أو أصله أو دينه أو قبحه أو جماله فهو لا يؤكل ولا يُشرب، وإنما انظر إلى إمكانية التعايش معه.. وكل شيء هو خلق ربك..
.. إنها مقاييس غير مادية.
حين كنا، أخي حسن وأنا، نعتزل طويلاً في غرفنا منكبين على القراءة وسط أكداس الكتب كانت تتركنا لفترات إلى أن ينتابها القلق فتأتي ناصحة إيانا بالخروج واللعب مع أصحابنا أو التمتع مثل مجايلينا: سوف تفقدون نظركم لكثرة القراءة (راح تطلع عيونكم). سوف تصابون بالجنون مثل الملا إبراهيم.. وتعني شخصاً في قرية مجاورة كان يقرأ كتب السحر، قيل أنه قد أخطأ في تطبيقها فأصابه الجنون. تهددنا بتمزيق كتبنا أو حرقها أو رميها إلى المزبلة. ولكنها ما أن نغيب حتى ترتبها لنا وتمنع الصغار والكبار من مسها. كم تجادلت معها وكنا ننتهي بالضحك. أصر على مواقفي (أمر لا أجرؤ على فعله مع أبي) وبعد جدل طويل أغلبها فيه وأقول لها: أنا حُر. فتجيب على الفور: أنت كُر. فنضحك معاً وتحتضنني قائلة: هل أجلب لك شيئاً تأكله؟.. اليوم صنعتُ زبدة تخبل.
كانت أمي دائماً تقف إلى جانبي، إلى جانبنا وإذا ما انتقدتنا فبحكمة وهدوء وحنان.. ثمة شعور ما يوهمنا بأن الأم هي دائماً تابعة لنا ونحن تابعون لآبائنا.. ربما لأننا نجدها حاضرة دائماً كلما احتجنا إليها، ربما لأنها تطيعنا وتنفذ لنا رغباتنا وتأمن لنا حاجاتنا الحياتية من أكل وملبس وأمان.. لكن الحقيقة التي أكتشفها الآن هي أنني أنا الذي كان يتبعها وأثرت بي أكثر مما أثرت بها، أثرت في شخصي وكتابتي باستمرار، بحة صوتها، ملامح وجهها وبصماتها في كل شخصيات الأمهات التي كتبتها.. وحضورها، في نصوصي، دائماً يفوق حضور أبي على الرغم من أن أبي كان فريداً في قوة شخصيته.. أجدها تشاركني في صياغة كل شخصيات الأمهات في قصصي، في تذوقي للعيش والمرأة وفي تلمس الرؤية للحياة والوجود والتعامل مع أبناء آدم والرب.
حكايات أمي لا تنتهي وذكرياتي عنها جزء من تكويني.. بقية اللمحات من سيرتها مبثوثة في كل ما أكتبه.. تلك الزاهدة الرائعة الإنسانية المتواضعة البسيطة التي فتحت عيني على ثوبها الأسود.. لم أرها بثوب غير الأسود أبداً وعمامة سوداء.. وأشعر بنوع من الرضى الآن كلما تذكرت بأنني قد اشتريت لها عمامة من بغداد بثمن أول مبلغ أقبضه في حياتي من الكتابة.. وأنني كنت أنتقي لها خيرة أنواع التبغ من أربيل براتبي كجندي.. علمها أبي التدخين منذ أن تزوجها صغيرة، ربما في السادسة عشرة من عمرها، وحين تركه هو بعد أعوام لم تتركه أبداً، ننصحها نحن والأطباء بعد أن أصابها الربو وصارت " تشحد الهواء" كما تقول.. لكنها تجيب: لا.. كيف أتركه وقد رافقني طوال حياتي.. كيف أهجر رفيق عمري لمجرد أنني مهددة بالموت. لذا فأنا أجد الآن إجابة مبنية على إجابتها لمن ينصحني بترك التدخين: كيف اترك قاتل أمي؟ العربي لا يترك ثأره. بالنسبة لي الأمر مجرد إجابة، لأنني في الحقيقة حاولت مراراً ومازلت أتمنى تركه، لكن الأمر بالنسبة لأمي كان مختلفاً. فهو مسألة وفاء وإخلاص حقيقية كعادتها في تعاملها مع الأشياء والأماكن والناس والرب. وربما أنها أضرتني بتعليمها لي التعامل العاطفي مع الأشياء والأماكن والكائنات.
أيام قصة حبي لسناء، وهي معلمة من نينوى وظفت في مدرسة قريتنا. كنت أتسلل إلى بيتها ليلاً كي لا يرانا أحد في القرية وأبقى هناك حتى ساعة متأخرة من الليل، تاركاً لأمي القلق والخوف علي والدعاء لي. تحبني وتحب لي الحب حالمة بزواجي وتربية أولادي مثلما ربت أولاد أخوتي: "تزوج لأرى أولادك قبل أن أموت". لكنها كانت تخشى علي المخاطر والفضيحة لذا تحذرني من التأخر وتهددني بإغلاق أبواب البيت قائلة:" كي تنام في الخارج مثل الكلب". أعود أحياناً مع الفجر فأجدها قد أوصدت الأبواب ونامت بعد أن تعبت من انتظاري ولأنني أعرف موقع سريرها على السطح أرميها بالحصى حتى تستيقظ وتنزل. تفتح لي الباب مؤنبة ثم تتجه إلى صلاتها وحيواناتها وإعداد الفطور، فيما أغط أنا بنوم لذيذ مكتظ بأحلام الحب، لاعقاً طعم قبلات حبيبتي على شفتي. وحين ماتت سناء محترقة أغلقتُ على نفسي الباب ليومين رافضاً الأكل ودخول أحد إلا أمي كانت تأتيني، تحتضنني أبكي على صدرها وأقول: لقد ماتت سناء يا أمي.. وأنا أحبها . فتقول: أعرف يا ولدي ما تعانيه، فيشعرني قولها بالمشاركة أنها تفهم أوجاعي.
في الصبا، أول هوسي بالقراءة، كنت أحمل معي الروايات حين أذهب إلى البرية راعياً الأبقار ولأنني كنت أغرق في القراءة تحت ظل حماري ولا أنتبه فقد أضعت أبقارنا مرتين أذكر حتى الآن أنني في إحداهما كنت أقرأ رواية (مدام بوفاري)، وحين أنتبه لا أجد أبقاري فأهرول في الأودية القريبة وأطوف هلعاً دون جدوى، لذا أحمل كتابي وقربة مائي ثم أركب حماري عائداً إلى البيت مطأطئ الرأس، فتنفجر صرخات الجميع في وجهي وسخرياتهم إلا أمي التي كنت ألوذ بها، وفي المرتين تعود الأبقار وحدها إلى البيت بعد غروب الشمس، فيزداد الضحك من قبل أخي الكبير قائلاً: أنظر أنت تقرأ الكتب ومع ذلك فإن الأبقار أفهم منك؛ ها هي تعود وحدها إلى البيت. وألوذ بأمي.. فبمن ألوذ الآن من سخريات الآخرين وأنا أرى سنوات عمري تتسرب مني أعواماً/أبقاراً عجافاً وسمانا، تضيع مني بلا عودة ترتجى، فيما أنا مازلت منكباً على القراءة؟!..
أيام حرب 1991 كانت تودعني بالاحتضان والقبلات والأدعية والابتسامات حاثة قوتي وتصبري متظاهرة بالقوة.. لكن أختي تقول: أنها تبكي في غيابك ويزداد حرقها للسجائر. وحين أبلغتها بأنني أنوي الهرب إلى سوريا حين كانت وحدتي العسكرية على نهر الخابور في الشمال منعتني بكل السبل وهددتني بقتل نفسها: لا أحتمل أن أخسرك أنت الآخر بعد أن خسرت حسن. حينها كان حسن قد أعدم شنقاً ولأنهم أخذوه لستة أشهر دون أن نتمكن من معرفة شيء عنه اعتادت أمي أن تجلس أمام نافذة البيت، المطلة على الشارع العام، ليل نهار تدخن سيجارة من عقب أخرى بوجه راح يذبل، شديد الحزن وعينان لا ترمشان، تلمعان، كلما مرت أو توقفت سيارة، بانتظار إطلالته.. وبقيت على هذا الحال حتى بعد أن أعادوه لها جثة.. تزور قبره وتحدثه عن بناته وتعاتبه وتبكي وتتضرع إلى الله أن يحرق قلب قاتله على أبنائه كما حرق قلبها عليه، ثم تعود إلى البيت إلى نافذتها بانتظار عودته. أذكر أنني حين كنت أرافقها إلى المقبرة أتنافس معها على حجز مساحة لقبري جوار قبر حسن؛ أقول لي وتقول لي.. لقد سبقتني إلى المساحة الآن.. ولأن المقبرة امتلأت وآخر الأخبار أنهم قد بدأوا بمقبرة جديدة في البرية ذاتها التي كنت أضيع فيها الأبقار فهذا يعني أنني لن أجد لي فسحة قبر معهما.. إنها أمنية أخرى ضائعة.
بعد انتهاء الحرب وتسريحي من الخدمة العسكرية التي دامت ثلاثة أعوام مريرة. قالت: آن لك أن تستريح وتتزوج. عرضت أمامي أسماء أجمل بنات القرية قائلة اختر من تشاء وأنا كفيلة بالباقي. لكنني قلت لها: لا أحتمل البقاء هنا.. أريد الخروج من هذا البلد.. إنني أختنق..
بكت، توسلت وحاولت بكل السبل. لكنني خرجت إلى الأردن واعداً إياها بالعودة بأقل وقت بالمال كي أزوّج نفسي.. فكان صوتها وكلماتها تأتيني عبر رسائل أخوتي داعية إياي للعودة وأنا أؤجل وأؤجل.. الشهر القادم، وفي القادم أقول الشهر القادم.. لأنني حقيقة لم أكن أنوي الرجوع.. هكذا إلى أن ماتت في غيابي فطعنني موتها وترك في نفسي شيئاً شبيهاً بالشعور بالذنب لأنني لم أف بوعدي لها ولم أحقق لها آخر أمنياتها بأن تراني بعد أن خذلتها في عدم زواجي، أشعر بقسوتي عليها.. هي التي كانت تسعى لتحقيق ما أتمناه فيما أنا لم أحقق لها حتى أمنية رؤيتي للمرة الأخيرة.. أخبروني أنها كانت تريد رؤيتي وتصرح بشوقها حتى آخر يوم في حياتها.. ولأنها ماتت في غيابي ولم أر موتها بعيني مثلما رأيت موت أبي لذا أشعر دائماً بأنها هناك.. إنها غائبة فقط أو أنني أنا الغائب عنها فيما هي ما تزال موجودة.. وأنني سأراها حين أعود.. لا أشعر بموتها حقيقياً.. ولأنني كنت ومازلت بشوق إليها ظل هذا الشوق في تعاظمه لرؤيتها حتى اليوم.. وأشعر بأنه سيلازمني حتى موتي.. فأرجو أن أراها هناك في الماوراء.
تطاولت أعوام غربتي، بعد انتقالي من الأردن إلى إسبانيا، وعلى الرغم من أن موتها يشعرني أحياناً بالتحرر من شدها لي باعتبارها أهم ما كان يشدني إلى الوطن ويدفعني هذا لممارسة معايشتي مع الثقافات الأخرى بشكل أهدأ وأعمق.. إلا أنني كنت ومازلت أحتاجها دائماً في ساعات الأزمات والمرض وذبحات الحنين وقسوة الغربة.. كم بكيتها وشعرت بيتمي الحقيقي الذي لم اشعر به حين مات أبي قبلها بعقد من الزمان تقريباً.. لذا فالقصيدة الوحيدة التي أحفظها من الشعر العربي والعالمي (الآن) هي قصيدة السياب: "الباب تقرعه الرياح".. أفهمها تماماً، أفهم السياب ، أتداخل معه، أتوحد به وهو طريح الفراش في مستشفى لندني بعيداً عن الوطن، وحيداً متوجعاً يهب من رقدته كلما حركت الرياح الباب، ظاناً أن أمه قد جاءت لرؤيته.. ولكنه سرعان ما ينتبه إلى أنها الريح، وأن أمه قد ماتت منذ زمن بعيد في مكان بعيد فيبكي.. ومازلت أبكي معه مردداً لكلماته التي هي الآن كلماتي:

"الباب ما قرعته غير الريح في الليل العميق،
الباب ما قرعته كفُّكِ.
أين كفُّكِ والطريق
ناءٍ؟ بحار بيننا، مُدنٌ، صحارى من ظلام
الريح تحمل لي صدى القبلات منها كالحريق
من نخلةٍ يعدو إلى أخرى ويزهو في الغمام.
* * *
الباب ما قرعته غير الريح...
آه لعلّ روحاً في الرياح
هامت تمر على المرافئ أو محطات القطار
لتسأل الغرباء عني، عن غريب أمس راح
يمشي على قدمين، وهو اليوم يزحفُ في انكسار.
هي روح أمي هزها الحب العميق،
حب الأمومة فهي تبكي:
" آه يا ولدي البعيد عن الديار!
ويلاه! كيف تعود وحدك، لا دليل ولا رفيق؟"
أماه .. ليتكِ لم تغيبي خلف سور من حجار
لا باب فيه لكي أدق ولا نوافذ في الجدار!
(…………….)
الباب تقرعه الرياح لعل روحاً منكِ زار
هذا الغريب!! هو ابنكِ السهران يحرقه الحنين.
أماه ليتك ترجعين
شبحاً. وكيف أخاف منه وما امّحت رغم السنين
قسمات وجهك من خيالي؟
أين أنتِ؟.. أتسمعين
صرخات قلبي وهو يذبحه الحنين إلى العراق؟".


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في مجلة (ميزوبوتاميا) العدد المزدوج 2 و 3.
http://www.mesopotamia4374.com/adad2/serathatayia4.htm

شهادة عن أخي / محسن الرملي

ــــــــــ شهادة ــــــــــ

حـسن مـطلك . . زهـرة عـزرائيل

محسن الرملي

" قيل للدفلى: لماذا أنتِ مُـرّة؟ فقالت: بسبب موت شقيقي."
مثل كُردي

في لقاء مع الكاتب الإسباني خوان غويتيسولو قال: لا أستطيع الكتابة عن الأحداث الكبيرة في حياتي الشخصية، كموت أبي أو أمي مثلاً. وهذا ما أدركته أنا أيضاً؛ حيث أنني لم أستطع الكتابة عن شقيقي حسن مطلك بشكل مباشر أبداً على الرغم من مرور أكثر من عقد ونصف على رحيله.. وها أنا أحاول ذلك هنا، ولهذا تزدحم ذاكرتي بالكثير ويغص قلبي بالوجع.. لم أكتب عن حسن مباشرة على الرغم من أنه أحب وأعظم من عرفت، وأن موته كان أكبر كارثة في حياتي.. لكنه ظل حاضراً بأشكال متعددة في كل نصوصي قصة ومسرحاً ورواية.. بل وأن آثار تأثيراته على نصوصي واضحة من حيث اللغة والمناخ والتقنية والرؤية وحتى الشخصيات، وبمجرد قراءة عادية لنصوصنا ستبدو وجوه التشابه جلية وأحياناً إلى حد التطابق.. ذلك لأننا كنا ملتحمين ومنفتحين على بعضنا بشكل حميمي كامل إلى الحد الذي تختلط فيه عليّ الذكريات الآن ويصعب عليّ التمييز بين ما عشته أنا أو عاشه هو، أو بين ذكرياتي وما أذكره عنه لأننا قد عشنا أحداثاً وتفاصيلاً كثيرة مشتركة.
قلة هم الأشخاص الذين يجود بهم الرب أو الطبيعة أو الصدفة أو التاريخ ممن يكون وجودهم متميزاً ونموذجهم نادراً وسط الملايين من البشر، بحيث يكون من العسير الانغلاق أمام التأثر بهم أو نسيانهم.. ويالها من صدفة قدرية رائعة وموجعة في الوقت نفسه أن أكون شقيقاً لإنسان من هذا النوع.
فحال تفتح مداركي على الحياة وجدت حسن مطلك أمامي يعينني على الإبصار في ضوئها وفي ظلمتها، وبذلك يكون هو الذي فتح عيني في حياته وجدد فتحهما بشكل أوسع وأعمق في مماته.. لقد كان بالنسبة لي الأخ والصديق والمعلم والأب الروحي والقدوة، فمن طبائع حسن أنه يصادق أخوته ويؤاخي أصدقائه.
لقد كنت أتبع خطواته وأحفظ وصاياه وأسلك سلوكه.. كان بوصلتي ونموذجي؛ بدأ بالرسم فبدأت بالرسم، ومر كاتباً وممثلاً ومخرجاً في المسرح المدرسي فمررت على دربه، وتحول إلى الكتابة فتحولت إليها.. كنت أسير على خطاه في حياته وأحلم بالسير على خطاه في موته، مع أنني أدرك بأن ذلك لن يرضيه، فهل سأستطيع أن أختار موتي كما فعل هو؟ لأنه من المؤسف أن نموت ميتات عادية مادام لابد أن نموت. لقد كان يتوقع لي عمراً مديداً كعمر جدي (والد أمي) بينما يتوقع لنفسه موتاً مبكراً فيردد بين المزح والجد: نحن العباقرة هكذا، نموت مبكرين لأننا نعيش حياتنا بكثافة مضاعفة ونشعل طاقاتنا إلى أقصاها. وعلى هذا الأساس كان يستخف بأية نصيحة توجه إليه لترك التدخين على اعتبار أنه يُنقص العمر، ويسخر من الأحاديث عن فوائد الرياضة ووصفات الأطعمة التي تطيل العمر. وقد سجل نبوءته هذه في رائعته (دابادا):" قال أنه يعي وقائع موته كمن ينفذ خطة طويلة بذل في إعدادها زمناً يمتد من آشور بانيبال حتى القيامة"ص52. بل وأكد حتى على تحديد سنوات عمره حيث يقول:" سأموت في الثلاثين أو أتعرض لأزمة"ص107. وهذا ما حدث فعلاً، فقد تعرض لأزمة التعذيب الشديد ثم مات وهو على أعتاب الثلاثين من عمره.
وعلى الرغم من أن حسن قد كان يخاطبني شفاهة وفي رسائله بـ( يا شبيهي أيها النمر ) إلا أنه كان يريدني مختلفاً عنه.. بل ونداً له، مذكراً إياي بفيزياء المغناطيس حيث ما يتشابه منها يتنافر وما يتناقض منها يتجاذب، ولهذا فقد بدأ بفصلي عنه كي أكون خصوصيتي الشخصية المستقلة، مبتدئاً باختيار أسمي الكتابي (الرملي) حيث كان من بين حيثيات إقناعه لي بهذا الاسم:استناداً ؛ إلى سلاسة أسلوبي وطبيعة انسيابه الرملي، كما كان يقول، ولكي لا أتعكز على اسمه ولا على الاسم العشائري باعتبار أن عشيرة (الجبور) من أكبر عشائر العراق. واستناداً إلى أسماء جدينا العاشر والثاني عشر والذي سمي بهما (فخذنا) غير المعروف على نطاق العراق من بين أفخاذ عشيرة (الجبور) لأنه فخذ من فخذ آخر هو (البونجاد).. ووصف الشعراء الشعبيون في منطقتنا هذا الفخذ لطيبة تعامله ومعشره وليونة طبعه بـ(أسلاك الحرير) وما زال هذا الوصف منتشراً هناك في حوض قرانا بأن: (الرملي سلوك الحرير) أما عن اسمه هو فقد نشر قصصه الأولى في جريدة (الحدباء) الموصلية باسم: حسن مطلك الروضان، ومن هذه القصص قصتيه (الاكتظاظ) و(الحاجز) التي كتب عنها الدكتور محمد جلوب فرحان مقالة أطول منها في العدد اللاحق في قراءة نقدية تطري بها. لكن حسن قد سارع إلى حذف (الروضان) حال صدور رواية تتحدث عن (نضال حزب البعث) لكاتب عراقي يحمل اللقب نفسه.
لم أكن الوحيد ممن أذهلتهم وشدتهم وأثرت بهم شخصية حسن بحكم حب المعرفة، وإنما كل الذين عرفوه من أهل وأقارب وأصدقاء وجنود وفلاحين.. حتى أن أمي كانت تصفه بأنه (وليّ من الأولياء) دون أن تضيف على هذه التسمية كلمة (الصالحين) لأن هذه الكلمة تعود في مفهوم أمي التقليدي على رجال الدين وحسب.. وما كان موت أمي إلا حزناً عليه حيث كانت تسهر أمام نافذة البيت تدخن التبغ الرديء على الرغم من إصابتها بمرض الربو، منتظرة أن يطل قادماً من معتقله.. وظلت تمارس انتظارها له حتى بعد إعدامه فراحت تذبل وتشيخ يوماً بعد آخر حتى ماتت. كانت تقول بأنه الوحيد الذي لم يتعبها في ولادته ولا في تربيته، لأنه كان قليل البكاء أو التشكي، وكان دائم التأمل والشرود أو الانعزال مع ألعاب يبتكرها هو بنفسه، ولم يأتها طفل يشكو منه ولم يأتِ هو شاكياً من أحد.. كان هادئاً مسالماً ممتلئاً بذاته، يحبه معلموه لذكائه وانعدام مشاكساته في المدرسة وتفوقه في الدراسة وفي النشاطات المدرسية التي تفوقت لاحقاً على اهتمامه بالدراسة حين توجه إلى المسرح والرسم والنحت.. فبدأ الصراع القاسي مع والده (رجل الدين الفطري) الذي بنى جامع القرية بيديه على أرضه وأم المصلين فيه، حافظاً للقرآن بعد أن علم نفسه القراءة والكتابة مقابل حفنات من التمر للشيخ الملا. وتولى خطب الجمعة. كان الأب يرفض (شخابيط) ابنه ويعتبرها حرام وتماثيله أصنام، فيكسر لوحاته ويحطم تماثيله ويمزق دفاتر رسمه، واصفاً إياه بـ(الخائب) ومردداً المثل القائل( أن النار تخلف عار) قاصداً نفسه بـ(النار) بمعنى التألق الاجتماعي العشائري والديني، حيث كان قوي الشخصية، عنيداً، عصبي المزاج، حاسماً في أحكامه في فض المنازعات على الأراضي والماء والزواج والميراث والقتل وغيرها. ولهذا فلن يرضى أن يكون ابنه (فناناً) ينكس (عقاله) وهامته الشامخة أمام الناس، فماذا ستقول الناس عنه: هذا (الركاص) هو ابن ملا مطلك؟. و(الركاص) أو (الراكوص) يعني (الراقص) لأن تسمية (فنان) في مفهوم أبي، أي كان نوع هذا الفنان، هو(ركاص). هذا المفهوم هو الذي حرمنا، نحن الاثنين، من حلمنا بمواصلة دراستنا في (أكاديمية الفنون الجميلة) لأن عائلتنا قد هددتنا بقطع علاقتها بنا وبالتبرؤ منا في حال تنفيذنا لذلك. وكان حسن، ازاء هـذا، يـحتمل بتـفهم غضب وعنف والـده دون أن يتـخلى عـن احـترامه ومحبته له، ودون أن يـتخلى، في الوقت نفسه، عن ممارسة عـشقه للفن، سـراً، حتى تحول هذا الأمر إلى الـقراءة حين راح يُـغلـف الكتب بصفحات الـجرائـد وأوراق أكياس الإسمنت، فيظن الأب أنه يقرأ في كـتبه الدراسـية.. وهـكذا قاده الإدمان عـلى القراءة إلى الكتابة، وإننا لنجد وصفاً لجانب من هذه الـعلاقة في رواية (دابادا)؛ حيث الأب مسعود رجل الدين التقليدي والابن عواد المولع بفن الرسم.. هذا كما اخترع حسن لنفسه حروفاً خاصة ليكتب بحرية ما يريده دون أن يحد أحد من حريته، وأخفى قائمة الحروف في مكان خاص عثرت عليها أنا لاحقاً ورحت أفك نصوصه التي كانت تتحدث عن حبه لفتاة اسمها (ليلى) عرفها أثناء دراسته الثانوية في قضاء الشرقاط وعن أحلامه ونقده للمجتمع المحيط به مسمياً الأشخاص بأسمائهم.
لست هنا بصدد خط سيرة لحسن مطلك لأن ذلك ما أتمنى القيام به مستقبلاً مدعماً بالتفاصيل والوثائق، ومنسوجة بمفاصل من كتاباته هو.. ولكن امتلائي الدائم بحضوره في ذاكرتي والقلب هو الذي يقودني للإسهاب أحياناً.. ذلك أن حسن مطلك قد كان قوياً في حضوره ـ مثلما كان قوياً في غيابه ـ جذاباً ومؤثراً بسلوكه وطروحاته وأسلوبه في الحديث. صادقاً بالكلمة والفعل حد الموت. متمرداً على التخلف والقيود العشائرية على الرغم من أن الحكومة قد كتبت في (شهادة وفاته) بأنه (أعدم شنقاً) والأسباب (تكتل عشائري) فقد كان غرضها تشويه سمعة محاولة التغيير وتبرير قتلها له ولرفاقه، مع أنها لا تحتاج إلى تبرير أفعالها بعد أن قامت أصلاً على سفك الدماء والبطش بالشعب العراقي وجيرانه ومادامت تدرك أن كل تبريراتها لا تنطلي على أحد، لا داخل العراق ولا خارجه.. ومع ذلك نقول بأن قولها في (شهادة الإعدام) أن (السبب: تكتل عشائري) لا أساس له من الصحة، فحسن مطلك ذاته رافضاً لذلك، وحين فاتحته: مجموعة (الضباط الأحرار) ، كما كانوا يسمون أنفسهم وغيّر حسن الاسم إلى: تجمع(العراقيين الأحرار).. حين فاتحوه بنيتهم بالقيام بالمحاولة الإنقلابية العسكرية ـ لما كان معروف عنه سخطه من النظام وإعلانه عن رأيه ذلك بلا مخاوف ـ اشترط عليهم أن لا تكون المحاولة هي مجرد تبديل عشيرة بعشيرة أخرى أو نظام عسكري بنظام عسكري آخر، وأن المحاولة في حال نجاحها يجب أن تكون مجرد سلطة انتقالية منقذة تتيح للشعب أن يقوم بانتخابات ديمقراطية.. أما النفس العشائري فلا بأس باستخدامه في المفاتحات وتوخي الثقة من أجل ضم العناصر التي ستقوم بالعملية، ثم لا بأس أيضاً بمحاربة السلطة بسلاحها (العشائرية) التي راحت تكرسها مؤخراً. وقد كتب له محمود جنداري بهذا الخصوص في رسالة أوصلت باليد قائلاً: إن العراق ليس عشيرة وأنت رجل مثقف لا يجب عليك التفكير بهذا الشكل أو التورط به. فذهب إليه حسن إلى بيته في كركوك ليقول له.. أنه لهذا السبب قد ضم شخصياً أصدقاء له من عشائر أخرى ليلغي فكرة العشيرة الواحدة عند القادة العسكريين للمحاولة، ومن بين من ضمهم حسن مطلك: الطبيب أحمد الغربي (عبيدي) محمود جنداري(جميلي) آواة حسن (كردي) ناصر محمود (عبادي) وآخر (شمري) لا أذكر اسمه.. وغيرهم.
وحين سألت حسن بعد اجتماع واحد لي معهم في بيت أحد الضباط (صالح جاسم): لماذا لا يتم تأجيل المحاولة مادامت الحكومة ـ وبعد انتهاء الحرب مع إيران ـ قد أخذت تتحدث عن مناقشة مسألة الدستور والتعددية الحزبية وحرية الصحافة والديمقراطية؟ قال: كله كذب في كذب.. وحتى لو كان صحيحاً فإن جرائم صدام التي ارتكبها لا تغتفر أبداً ومنها جريمة حربه مع إيران. وفي مرة أخرى سألته عن سبب اشتراكه هو في المحاولة، ولماذا لا يدع العسكريين يقومون بالمهمة فهي من صلب عملهم بينما اختصاصه هو الكلمة. قال: أذكر عبارة لـجان بول سارتر يقول فيها؛ بأن على الكاتب أن يحمل السلاح إذا صودرت حرية قلمه.
لقد كان حسن مطلك متطابقاً مع ذاته، سريع البديهة، واضح القصد والآراء والمواقف، صادقاً في سلوكه وموحداً بين أقواله وأفعاله بشكل كيخوتي يراه البعض جنوناً فيما يراه البعض الآخر شجاعة وجرأة حقيقيين كانا يثيران الخشية عليه من قبل محبيه من أهل وأصدقاء.. وأذكر من مواقفه حين كان مديراً لمدرسة قرية (الزرارية) إحدى قرى (الزاب الأسفل)، حين جاءه مفتش مبعوث من مديرية التربية، وبعد أن تفحص المفتش وضع المدرسة اجتمع بحسن وبقية المدرسين والمعلمين في نهاية الزيارة وقال لحسن: المدرسة بشكل عام رديئة. فأجابه حسن على الفور وسط دهشة الحاضرين: المدرسة رديئة لأن مديرية التربية رديئة، ومديرية التربية رديئة لأن وزارة التربية رديئة، ووزارة التربية رديئة لأن الحكومة رديئة، والحكومة رديئة لأن رئيس الحكومة رديء. فساد الصمت والذهول على الجلسة للحظات، ثم أخذ المفتش (وكان من أصل كردي) حسن مطلك جانباً وقال له: أنت على حق ولكن لا تقل هذا الكلام أمام أحد غيري.. أما عني فسوف أكتب أي شئ روتيني في سجل زيارتي. وغادر بعد أن ودع حسن معانقاً له بقوة وسط دهشة الآخرين. والموقف الآخر قد حدث أيام كان حسن مطلك جندياً مكلفاً في القاطع الجنوبي/ في جزيرة (أم الخنازير) أو (أم الرصاص). حيث قدم إلى وحدته وفد من وزارة الثقافة تحت ما يسمى، آنذاك، بالمعايشة أو تفقد جبهات القتال وكان يرأس هذا الوفد عبدالأمير معلة وكيل وزارة الثقافة وكان يعرف حسن مطلك وخاصة بعد فوزه بجائزة قصة الحرب عن قصته (عرانيس) سنة 1983 واجتمع به على انفراد في غرفة الآمر وعرض عليه أن يرسم صورة جدارية للرئيس أو أن يكتب مدحاً مباشراً له، ومقابل ذلك سيتعهد له بتزكيته ونقله إلى وظيفة في الوزارة أو في إحدى الصحف فأجابه حسن بالرفض قائلاً: آسف لا أستطيع أن أفعل ما تفعله حضرتك وأفضل أن أموت هنا مع زملائي الجنود المساكين الذين أعرفهم على أن أعيش هناك مع أناس لا أعرفهم ولا أتفق معهم.
وأيام عمل حسن مطلك كمدرس لمادة (التربية وعلم النفس) في معهد كركوك للمعلمين ربطته علاقات وثيقة بالطلبة وبعوائلهم الكردية والتركمانية، وكان الجيران منهم يجلبون له الطعام في القسم الداخلي، حيث يقيم مع طلبة المحافظات، ويغسلون ملابسه أو يدعونه للسهر في بيوتهم. وقد حضرت إحدى تلك السهرات فوجدت حسن يتحدث ويتصرف بحرية تفوق حريته حتى داخل بيتنا، وعرض عليه البعض أن يهربوه إلى خارج العراق فكان يرفض قائلاً: أن الوطن بحاجة إليه.. وأن لديه مهام هنا يريد القيام بها... ولم نكن نتوقع أن تكون إحدى مهماته هذه هي القيام بمحاولة لقلب نظام الحكم.. تلك المهمة التي قطعت أمامه الطريق لإنجاز مهماته الأخرى ومنها ما أشار إليه في يومياته من أنه يريد أن ينال جائزة نوبل، لا للجائزة بعينها، وإنما لرفعة اسم أدب وطنه.. لأنه يغار من آداب الشعوب الأخرى ولا يحتمل أن يتم تجاهل أدب شعبه الذي هو أقدم أدب في العالم.
كان حسن مطلك المثقف كثير القراءة وله خصوصيته في استخراج الرؤية من النصوص التي يقرأها وطبيعة تأويله لها ونقدها. وأكثر قراءاته كانت في الفلسفة وهو لا يتردد في مناقشة أعقد الطروحات الفلسفية مع أي شخص بمن في ذلك البسطاء من الفلاحين ممن كان بعضهم يلقبونه بين الجد والسخرية بـ(الفيلسوف الدفين) وهو ميال إلى الفلسفة المثالية أو الأصح الإنسانية أكثر من ميله إلى المادية أو الميتافيزيقية. يميل إلى إفلاطون والسفسطائين وهيغل وسارتر وهو شديد الإعجاب بالمتشائم شوبنهاور وبنيتشه الذي يحفظ الكثير من أقواله. ومن قراءاته المفضلة الأخرى كانت في الفيزياء والميثولوجيا العراقية القديمة واليونانية فقد كان يبحث في كل ما يتعلق بالحضارات العراقية القديمة وبشكل خاص الحضارة الآشورية لأن قلعة عاصمتهم تقيم أمامنا في مواجهة القرية وكنا نزورها باستمرار. لم أجد لدى حسن اهتماماً بقراءة التاريخ الحديث ولا التاريخ الإسلامي ولا السياسة ولا الاقتصاد بينما كان يقرأ بعض كتب السحر استزادة في معرفة هواجس النفس البشرية وسعة في الخيال. وكثيراً ما يقرأ في معاجم وقواميس اللغة وكأنه يقرأ عملاً روائياً، هذا إلى جانب قراءته الدائمة لكتب علم النفس الذي هو اختصاصه الأكاديمي، علماً بأنه لم تكن لديه أية طموحات أكاديمية أبداً.
مما يلفت النظر لمن يتعرف على حسن، أول مرة، هو أسلوبه أو لغته في الحديث حيث طغيان الفصحى وانتقائية الشعبي.. إنه شديد التحسس للمفردات وما كان لينهي كتاباً أدبياً إن لم يكن ذي لغة أنيقة أو خاصة. وكان يصرخ فرحاً كمن يجد شيئاً لامعاً في العتمة حين يسمع كلمة تعجبه أو تعبيراً أو وصفاً لذيذاً فيصيح: جميل.. جميييل. وهكذا جاءت لغته خاصة بفعل تعبئتها بالفكرة الفلسفية والصورة الشعرية وروح الكلمة الشعبية. وكان من عادة حسن أن يحفظ عن ظهر قلب النصوص التي تعجبه لغةً أو بناءً أو رؤية.. ومن ذلك أذكر أنه يحفظ قصة (البومة في الغرفة البعيدة) لـغسان كنفاني والفصل الأول من رواية (الصخب والعنف) لـوليم فولكنر وهو الفصل المتعلق بشخصية المعتوه بنجي، وتأثيره واضح تماماً على حسن في دابادا في شخصية شاهين. كما يحفظ قصيدة لوركا (الزوجة الخائنة).. فهل أطلق عليه أصدقائه ألقاب (لوركا العراقي) و(كنفاني العراق) لإعجابه بهما وحفظ نصوصهما وتشابه نهاياتهم العنيفة؟. كما كان يحفظ أيضاً معظم ديوان البياتي (مملكة السنبلة) وقـصائد طـويلة لصـديقه أردال و(أنشودة المطر) للسياب ومقاطع طويلة من كلكامش وأقوال نيتشة وسوراً من القرآن. وحين كنت أسأله؛ لماذا يحفظها وهي متوفرة في الكتب كان يقول: لأجد ما أقرأه حـين لا أجد كتاباً. وبالفعل كان يقرأها أثناء ذهابنا بالسيارة إلى بـغداد أو الموصل أو كركوك، في الطريق، ويحلل لي الجُمل والبناء. لأننا كنا نذهب بلا كتب لنعود بكتب. فأقرأ عليه في العودة من الكتب التي نشتريها أو تهدى إلينا ويعلق هو على كل جملة، ومن ذلك أنه أصر، ذات مرة، أن ألقي من النافذة بمجموعة قصصية أهداني إياها صديق، لمجرد أن فيها تعابير مثل: (ودارت الأيام)و(كنت قاب قوسين أو أدنى) أو(راحت الذكريات تمر في رأسي مثل شريط سينمائي) قائلاً: أما زال هناك من يستخدم هذه العبارات؟.. ألا يقرأون؟ ألا يتذوقون اللغة ويستشعرون عذوبة الكلمات؟.ويضيف: إن الكلمات لكائنات حية، وأقسم بأنني لأشعر بنبضها عند الكتابة... كما كان يستخدم ما يحفظه حين كان جندياً حيث يعيد كتابة أو تلاوة ما يحفظه أثناء الخفارات والواجبات المملة.. ومن المؤكد أنه قد استعادها في زنزانته أيضاً.
ومن عادة حسن أيضاً أن يعيد كثيراً قراءة الكتب التي تعجبه ومن ذلك أذكر أعمال هيرمان هيسة ونيقوس كازانتزاكي وبشكل خاص مذكراته في (الطريق إلى غريكو) ورواية (قلب الظلام) لـجوزيف كونراد و(الصخب والعنف) لـفولكنر و(صورة دوريان جراي) لأوسكار وايلد و(البحث عن الزمن المفقود) لبروست و(كلكامش) و(حي ابن يقظان) لابن طفيل التي نجد تـأثيرها أيضاً في (دابادا) والتي كان يقول عنها إنها من أعـظم الروايات ولكن كان على ابن طفيل أن يكتبها بلا كلمات لأن بطلها بلا لغة وبما أن ذلك مستحيل فهنا تكمن مقدرة ابن طفيل، وكان يعيد علي إعجابه بها مراراً وتكراراً فـقلت له ذات مرة باللهجة العامية: " شكو خبصتـنا بابن طفيل؟ ـ وبما أن اسم أمي طفلة وينادونها في القرية تصغيراً (طفيلة)، وكان حسن يمازحها بحنان: أما زلت طفلة لم تكبرين؟ أو: كم أحسدك على هذا الاسم!. ـ قلت له: إذا كان هو ابن طفيل فأنا ابن طفيلة. وقد ضحك ساعتها حتى انبطح على الأرض ونهض ليقبلني صائحاً: جميل.. جميييل.. قوية. وظللنا نتذكر ذلك كلما تحدث عن ابن طفيل بعدها ونضحك.
لقد أعاد حسن قراءة جويس و(السيدة دلاوي) لفرجينيا وولف. ولكنه لم يعد قراءة ماركيز مثلاً على الرغم من اندهاشه الأول به لأنه كان يقول: أن ماركيز لا يحتاج إلى إعادة قراءة وأنه سيبقى هكذا دائراً حول عمليه العظيمين (مائة عام من العزلة)و(خريف البطريرك) ولن يأتي بجديد. ولهذا لم يهتم بمتابعة جديده.
ومن طرائف أو مواقف حسن المتعلقة بطبيعة تحسسه للغة أنه قد غضب على خطيبته المعلمة وانفصل عنها لأنها أصرت أن تكتب بالتاء المفتوحة كلمة تنتهي بالتاء المربوطة. وأنه كان يصر في المحكمة التي حكمت عليه بالإعدام أن يصحح، لغوياً، أقواله التي كان يدونها كاتب المحكمة ويصحح في لغة نص قرار إعدامه، كما ذكر ذلك بعض الشهود الذين كانوا حاضرين. ومما أذكر أيضاً أنه قد اشترك في الندوة التي عقدت في بغداد حول أدب الحرب سنة 1988 أو 1989 فقرأ شهادته وعاد ليجلس في مقعده المجاور للروائي فؤاد التكرلي فقال له التكرلي: شهادتك ممتازة ولكن فيها أخطاء لغوية. فأجابه حسن على الفور: أليس ذلك بأفضل من أن أكتب باللهجة العامية؟. فسكت التكرلي مشيحاً بوجهه عنه.
أما عن الكتابة فلم تكن لحسن مطلك طقوساً محددة ولكنه غالباً ما يكتب في الليل ويدخن كثيراً أثناء الكتابة، ويستيقظ أحياناً في منتصف الليل ليكتب سطراً.. وكم من مرة أيقظني ليقول لي: اسمع لقد أتتني هذه الجملة. ما رأيك؟. كان يكتب أحياناً مقاطع تأتيه تدفقاً دون استنادها على فكرة مسبقة أو على هيكل تخطيطي حيث يقوم لاحقاً بتطويرها أو دمجها في نصوص أخرى أو التخطيط على أساسها لعمل متكامل. وكان كثير المراجعة لكتاباته وكثير الشطب والإعادة ومن ذلك أنه قد أعاد كتابة روايته (دابادا) خمس مرات على مدى خمس سنوات. وغيّر مدخل روايته (قوة الضحك في أورا) عشرين مرة.. ومات وهو يفكر بتغييره. وكم من مرة يسهر حتى الفجر ليكتب عشرة أسطر يمزقها عند الصباح. وأحياناً يستيقظ فجراً ليدون صوراً من حلم جاءه في المنام. ومن عادة حسن أن يزداد قراءة عندما يكون يعمل في مشروع كتابي، ولكنه يقرأ ويلغي ذهنياً ما يقرأه كي لا يقع تحت تأثيره أو يقرأ في كتاب بعيد عن جنس ما يكتبه وكان يقول: إنها مجرد عملية تسخين ذهني.. كما يفعل الرياضي قبل السباق أو العازف قبل العزف. وفي كتابته التنظيرية أو الفكرية كان قليلاً ما يعتمد على المصادر مباشرة ولا ينصص، إنما يعتمد على ذاكرته وذهنه ووعيه لأنه يرى بأن الكتابة التنظيرية أو الفكرية، هي الأخرى، عملية إبداعية. وكان يعرض كتاباته على الجميع وغالباً ما يأخذ برأي الأصدقاء ويراقب ردود الفعل عند القارئ. ورأيته لأكثر من مرة يسأل حتى أمي الأمية ـ لا تقرأ ولا تكتب ـ قائلاً: لو أن شخصاً كذا فعل كذا فما مصيره في رأيك؟.
إن انشغال حسن بنص ما يجعله يعيش تحت هيمنة مناخ هذا النص ولذلك فهو يلتقط كل ما يلاقيه من كلمة أو حدث أو صورة يجدها تنسجم مع ما يشغله. وكان يقفز قائلاً: وجدتها.. وجدتها.. وأحياناً بالعامية: لكفتها.. لكفتها (لقفتها). بل أنه يعيش شخصياته أحياناً ولذلك فإن سلوكه كان طفولياً ومفاجئاً في بعض اللحظات أيام كتابته لدابادا فقد كان يتقمص شخصية شاهين ويراقب ردود فعل الآخرين عليها. لقد كانت الكتابة لديه نزفاً حقيقياً وفيها من القسوة ما يجعله، أحياناً، يهرب منها إلى جهد عضلي ما. ولا يحتمل حسن جملة أو كلمة فائضة في نصه أو خالية من تأويل، فهو يرصف الكلمات كمن يرصف حجراً قرب حجر بعناية وصدق، أو كما يقول (حصاة ترص حصاة). ..الصدق الذي كان محور سلوكه وقوله وعلاقاته ومن ذلك علاقته بالكتابة.. انه شديد الحذق في معالجته لنصوصه.. أي ما يخص النسج المنسجم بين ما هو إبداعي ومصنوع، ما هو خيالي وواقعي، ما هو فكري وشعري، الشكل والمحتوى والمعرفة والمتعة.. لديه قدرة فائقة على توحيد المتناقضات وجمع المتعدد. وقد لاحظت في قصصه الأخيرة أنها طويلة فسألته عن ذلك فقال: أشعر بأن القصة القصيرة لم تعد قادرة على احتوائي يا أخي.. إني ممتليء .. وأشعر بأن كل شئ، مهما كان صغيراً، لا يمكنني إيـصاله إلا عبر رواية. هـذا كما حـاول أن يكتب المسرحية فكتب نصين قصيرين، شـبيهين بنصوص صوموئيل بكيت. أبطالهما الضوء والصفير.
لقد كان حسن أقلنا في العائلة حرصاً على المال وأكثرنا حرصاً على الوقت. وكان فرحه بمال جائزة القصة الذي أعطاه للعائلة وبنوا به سياجاً واسعاً، إنما فرح بإثباته لهم أنه يستطيع أن يجلب المال من القراءة والكتابة أيضاً لذلك فقد كفوا عن مضايقته بل أنهم راحوا يشجعونه على الكتابة وتحولت تسمية (الفيلسوف الدفين) من نبرة السخرية إلى نبرة الجد. ولكنه في حقيقته ما كان ليرغب بالكتابة المنسجمة مع النفس (التعبوي) للحرب لذلك كان يكتب عن الإنساني ومن ثم هرب إلى (دابادا) ورفض أن يجمع قـصصه عن الحرب في مجموعة، أيام كانت الوزارة تطبع كتب أدب الحرب بكثرة.
ومن صور عدم اهتمامه بالمال أو المادي أنه كان يصرف راتبه الشهري في اليومين الأولين ولا يتردد في سد حاجة إذا كان في جيبه شيئاً وكان يمنحنا قمصانه وبنطلوناته وأحذيته.. ومن نادر كرمه؛ أذكر بأنه قد ناداني إلى غرفته، حيث كان في فراشه إثر نزلة برد، فأعطاني مغلفاً وقال: خذ هذا المظروف إلى فلانة. ـ وكانت هذه امرأة مدقعة في الفقر، أرملة ضعيفة البصر تعيل ثلاثة أطفال وليس لديها إلا بقرة واحدة وحمار، ليس لديها أرض أو مزرعة أو معيل. تسكن في أطراف قريتنا في بيت طيني من حجرتين إحداها لها ولأطفالها والأخرى للبقرة والحمار وكانت تعيش الكفاف الحقيقي، ويساعدها الناس عبر الزكاة وإيفاء النذور ـ قال لي: اعطها هذا وقل لها هذا من (أبو مروة) ولا تبق عندها إذا دعتك للطعام أو الشراب. فحملت المغلف ومضيت، وقبل أن أصل فتحته فوجدت فيه ثلاثين ديناراً، أي ما يعادل ثلث راتبه آنذاك. وحين وصلت أعطيته إياها وهممت بالخروج. لكنها أقسمت أن أجلس وأشرب الشاي بعد أن علمت بأنني شقيق (أبو مروة) وراحت تحدثني عنه بينما هي تبحث بين أوانيها المتواضعة تساعدها طفلتها.. وأذكر مما قالته لي؛ أنه كان يزورها في نهاية كل شهر وكان في البداية يعطيها المغلف ويغادر دون كلمة.. حتى أنها كانت تتصور بأنه ملاكاً يبعثه الله لها بهذا الرزق. لكن ابنها الكبير (12سنة) قد قال لها بأنه حسن ابن الحاج مطلك الروضان. فألحت عليه بأن يجلس. وأخذ يجلس معها ويجلب معه بين الحين والآخر علب الألوان والأوراق والمجلات لأطفالها ويحدثهم عن بهاء المدن البعيدة والتي لا يمكن الوصول إليها إلا بالقراءة والنجاح في الدراسة.. وكم رأيتها، بعد رحيله، جالسة إلى جوار قبره وحدها في أيام الجمعات لأن الناس هناك تزور المقابر يوم الخميس، فكنت أذهب وحيداً لأجدها هناك تحف قبره برصف الحصى الأبيض وقلع الأعشاب عنه.. تقرأ الفاتحة ثم تقبل صخرة شاهدة القبر وتغادر. لم أتحدث معه في هذا الأمر ولم أخبر أحداً به لأنه كان سيثير زوبعة عائلية وهو الذي يعمل بعد الوظيفة صباغاً وبناءً وخطاطاً لقطع الدكاكين وأبواب السيارات، وكم ترك من لوحاته في بيوت القرية وخطوطه على المسجد والمدرسة وزخارفه على واجهات وسطوح المنازل وعمل برصف الأرضيات كي يكمل بناء بيته الذي أعد خريطته بنفسه قائلاً: هذه الغرفة ستكون مكتبتي. وجعلها منعزلة. وما أن أكمل البيت ولم يبق إلا وضع الإنارة فيه حتى حدث ما حدث فبقي بيته مهجوراً وبلا ضوء حتى اليوم.
حين بدأت ابنته مروة تردد ما تسمع وتحاول نطق كلماتها الأولى. كانت أمها تعلمها أولاً كلمتي بابا وماما بينما كنا حسن وأنا نتسلى بتعليمها أسماء غريبة وصعبة عليها مثل: مارسيل بروست، جيمس جويس، كلكامش، ديستوفسكي، ميسو بوتاميا.. فكانت تردد صدى الكلمات بتلعثم حلو ونحن نضحك. تلفظ كلكامش (آمش) ودستستوفسكي (فسكي) وإيتماتوف (أوف) ومسوبوتاميا(باميا) فعلق حسن حينها:إنـها بنت عراقية أصـيلة فالعراقيين هـم أكثر شـعوب الأرض حباً للبامياء. فـكانـت أمي تـقول لنا:عـلموها اسمها واسم أبيها وأسماء أعمامها وأسـماء أجـدادها بـدل هذه (الخرابيط). وكان من عادة أبي أن يحفظنا أسماء جدودنا حتى الجد الحادي والخمسين. فأجابها حسن: أنا مجموع هؤلاء وهؤلاء هم جدودي فإن لم تعرفهم لن تعرفني. وحين كانت أمي تقص على مروة حكاياتها الشعبية عن السعلوة والحنفيش والطنطل وغيرها. تأتي مروة إلى والدها لتسأله عن هؤلاء فيشير لها حسن إلى التلفزيون حيث الرئيس في أحاديثه وزياراته الطويلة المملة: هذا هو كل هؤلاء.. انه تجسيد لكل كائنات الشر التي تصورتها المخيلة العراقية.
كان يخاطبها بهذه اللغة تماماً مثلما كان يخاطب أمي والجميع. فتنادي أمي على مروة: تعالي يا ابنتي أبوك (مخبل)..وننفجر نحن بالضحك بينما تروح أمي تفسر لحفيدتها: أن السعلوة كائن قبيح بأرجل خيطية وأن الطنطل كائن طويل وما إلى ذلك. وتنهرنا أمي قائلة: ان الطفلة ستردد ما تعلمانها أمام الناس وسوف تعدمكم الحكومة. فيجيب حسن: أكثر مما نحن معدومين؟!.
كنا نذهب في نهايات الأسابيع إلى شاطيء دجلة على دراجته النارية وهناك نتحدث طويلاً عن الأدب والأصدقاء ونتدارس معاً جوانب التنظير لـ(الواقعية المطلقة) حيث كتب هو فيها خمسين صفحة وأنا عشر صفحات. أو نقترح فكرة قصة ليكتبها كل منا بأسلوبه ونناقش بعدها نصينا وكيفية تناولنا للفكرة وأسباب التناول بهذا الشكل أو ذاك. وفي البداية كان حسن يخترع مكافأة لي على كل نص يعجبه من نصوصي. وظلت أول قصة كتبتها (العصر الطبشوري) هي أحب قصصي إليه… كان حسن سعيداً بدراجته النارية، مفلسفاً حبه لها بأنها بلا نوافذ وتجعله ملتحماً بالطبيعة وتتطلب منه اليقظة لا الاسترخاء كالسيارة، إضافة إلى أنها آلة فردية ولذلك فهي كالكتابة عملية إبداعية فردية.. وتأتيه الكثير من الأفكار والصور وهو على ظهر الدراجة.
أما عن حسن مطلك والمرأة فهذا أمر يطول الحديث عنه ودراسته، وربما يحتاج إلى كتاب شبيه بالكتاب الذي صدر عن لوركا بعنوان (نساء الشاعر). إلا أن ما تجدر الإشارة إليه هو أن حسن كان يعشق النساء القويات والمتمردات في الحياة والأدب، ومن بين أبرز علاقاته كانت بنماذج من هذا النوع: (ليلى) في الثانوية و(ميسلون) في الجامعة، وتلك التي أسماها (هدى) في الفترة الأخيرة من حياته. وكتب عنها مخطوطه (كتاب الحب: ظل القمر على الأرض). ونلاحظ بوضوح أن كل الشخصيات النسائية في قصصه القصيرة ورواياته هي شخصيات قوية.
لقد اعتقلوا حسن صبيحة يوم 7/1/1990 في قرية (صبيح) عندما كان متوجهاً إلى مدرستها حيث كان مديراً. لم يقاوم لأنه لم يكن يحمل معه إلا الكتب والقلم وحين أصعدوه في سيارة (الاندكروز) كان يلوح للقريبين من أهل القرية وطلابه مودعاً. دام اعتقاله ستة أشهر في الشعبة الخامسة من مديرية الأمن العامة، لم يسمح خلالها لنا بالسؤال عنه أو زيارته.. لقد عشنا أياماً مروعة ومريرة، وبعد التقصي من قبل عوائل المعتقلين الآخرين عرفنا اليوم والساعة التي ستتم فيها محاكمتهم في محكمة (الثورة) المعروفة بلا عدالتها وبخلوها من المحامين والقانون ووحشية قراراتها اللامسؤولة، فذهبنا عدد من العوائل لنرابط هناك خلف الأشجار خفية على طريق يؤدي إلى المحكمة علنا نحظى برؤيتهم من نافذة سيارة أو في حوض شاحنة.. ولكننا لم نر إلا رتلاً من السيارات العسكرية والمدنية ومدرعات محملة بالعساكر وطائرة مروحية تحوم في السماء. طافت في ذهني لحظتها أمنيات أن أكون بطلاً من أبطال الأفلام الأمريكية الذي ينقذ من يشاء بقدرته العجيبة على التحارب. نظر إلى أخي الكبير واحتضنني باكياً بعد أن مر الرتل.. شعرت بالغصة تغرقني وبسواد العالم من حولي وبقهر مميت يهتكني.. ثم وقعت مغشياً عليّ. وقد وصف محمود جنداري تلك اللحظات من داخلها في قصته (وليمة الدم) بالقول:( من أين يأتي الكلام يا حيّ وأنت دخلت بي عصر الرصاصة وغادرت عصر الكلمة/ لا تقل أن الكلمة الحق اختفت/ موجودة/ لكن أين الكلام؟ ومن أين يأتي؟/ تراصف معي وتعال لنتطلع من كوة واحدة/ لترى كيف ينبعث الموت من هذه المائة شئ/ كيف تتبدد الرهبة ويفيض الإحساس بالخوف اللذين يتوفران فيك بكميات كبيرة/ الخوف والرهبة اللذين شعرنا بهما بشكل حقيقي ونحن في الطريق إلى المحكمة في تلك السيارات المغلقة/ تحف بها سيارات أخرى، مصفحة ودبابات وطائرات مروحية/ سبعة وعشرون رجلاً لا يعرف أحدنا الآخر/ لكننا نعرف أننا نساق إلى المحكمة).ص136من مجموعته(مصاطب الآلهة)دار أزمنة/الأردن1996.
لقد كانت النماذج المفضلة من الشهداء في تصور حسن مطلك، هم: سقراط، الحسين(ع)، المسيح(ع) وجيفارا... ولكل من أنواع شهادة هؤلاء رؤية ومفهوماً عنده.
.. قيل: أن حسن مطلك كان يتحدث معهم (رفاقه في المعتقل) عبر أنابيب الماء الفارغة التي كانت تربط بين زنزاناتهم. كان يقويهم ويقص عليهم الطرائف(النكات) كي يبتسموا بعد وجبات التعذيب.
.. وقيل: أن حسن قد اعترف في التحقيق صراحة برغبته في تغيير النظام وبيّن الأسباب وكان طليق اللسان وكأنه مسروراً بالحرية في أن يقول ما يريد أمام قاتليه لأنه كان متأكداً من إعدامه.
.. وقيل: أن صاحبه أواة كان يقول: أقوالي لكم هي ما يقوله حسن مطلك. دون أن يعرف ما قاله حسن في التحقيق.
.. وقيل: أن حسن قد أصر على التصحيح اللغوي لنص إفادته في المحكمة وقرار الحكم.
لقد أعدموه شنقاً لأنه مدني بينما أعدموا العسكريين من رفاقه بالرصاص ولم يسلموا جثثهم إلى أهلهم إلا بعد أن دفعوا ثمن الرصاصات التي قتلوهم بها، كما لم يسلموا بعض الجثث لأنهم شوهوها.
قالت زوجة حسن التي رأته في التابوت: لقد حاولت إيقاظه لأنه كان.. وكأنه نائم ووجه مفعماً بالرضى. منعت علينا السلطات إقامة مأتم له وحذرت الناس من تعزيتنا فيه. فكان أهل القرية يتقاطرون علينا سراً، في الليل، كي يعزوننا. ومن ذلك أيضاً أن ما يقارب العشرة أطفال ممن ولدوا بعد إعدامه قد حملوا اسم (حسن) كنوع من المحبة والاعتزاز والذكرى..
ترى هل قلتُ كل ما أعرفه، وما أريد، وما أستطيع ، وما يجب قوله عن حسن مطلك؟؟. بالتأكيد: كلا. فسوف أبقى نازفاً عليه وعنه دمعاً وحزناً وحبراً ما حيـيت.
ولأن حسن مطلك هو أروع روح عرفتها شخصياً من بين جميع الأرواح التي عرفتها وقطفها عزرائيل لذلك غالباً ما يحضرني وصف صديقه أردال له في قصيدة عنه. حيث يشعر بما أشعر فوصفه بـ(زهرة عزرائيل).. لقد بكينا حينها بمرارة (بكينا أكثر من كل أطفال العالم) كما يقول حسن مطلك في صـرخـته (دابادا).
.. بكينا في البيت والقرية وكركوك والموصل وبغداد والبصرة.
.. بكينا في الشمال والجنوب والوسط .
.. بكينا في كل العراق على حسن مطلك وعلى الشهداء وعلى العراق..
.. ومازلنا نـبكيهم في منافـينا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في مجلة (ألواح) العدد 11 سنة 2001 إسبانيا.

*وفي مجلة (العربي) العدد 549 بتاريخ 1/8/2004م الكويت.

صور: حسن مطلك ومحسن الرملي 1983 في دجلة

من الصحافة / الجزائر / محسن الرملي

صحيفة (صوت الأحرار) العدد 2818 بتاريخ 31/5/2007م

حوار أجرته: عقيلة رابحي
نشرة (المهرجان) العدد 15 بتاريخ 28/5/2007م


في صحيفة (الجزائر نيوز) العدد 1031 بتاريخ 30/5/2007م

في صحيفة (صوت الأحرار) العدد 2817 بتاريخ 30/5/2007م

رابط إلى كتاب (المسرح العربي.. المسيرة والتحديات)

نقاش ساخن حول مكانة المرأة في المسرح العربي

قطاف رضوان

قال الكاتب والباحث العراقي الدكتور محسن الرملي: إن المسرح العربي مجبر على تجاوز استعمال المرأة كرمز· وأوضح أنه يجب تجاوز النمطية في علاقة الكاتب المسرحي العربي بالمرأة· ومن جهتها تحدثت الباحثة العمانية الدكتورة آمنة الربيع عن مكانة المرأة في أعمال الراحل سعد الله ونوس، كنموذج للرؤية غير النمطية للمرأة العربية·تحولت الندوة التي أقيمت على هامش فعاليات الطبعة العربية للمهرجان الوطني للمسرح المحترف، والتي أقيمت أول أمس، بفندق الرياض بسيدي فرج، إلى نقاش مكثف وسجال ثري، حول مكانة المرأة في المسرح العربي، فانقسم المشاركون إلى قابل لطرح الإشكالية، ورافض لها في الأساس· وذهب الناقد الكويتي الدكتور نادر القنة إلى حد الحديث عن افتعالات في الحقل الثقافي العربي، عبر ما يروج له حاليا في السينما العربية مثلا· وقدم القنة مثال الأفلام التونسية التي تنتج بتمويل أجنبي، وتروج، حسبه، لصورة المجتمع العربي الذكوري البطريركي الذي يقمع المرأة· وعند بداية الندوة كان الباحث العراقي الدكتور محسن الرملي قد بدأ بطرح أرضية للنقاش، فجاء في محاضرته أن المرأة لم تتمكن من تجسيد نفسها جسديا على خشبة المسرح إلا بعد طول عناء· وقال إن ''الرواد هم من كان يمثل دور النساء''· وفي بعض الأحيان كان يرمز للمرأة بالظلال· وقال الرملي: أن أغلب النصوص المسرحية التي تتحدث عن النساء، كتبها رجال بعقلية رجالية· ومن إشكاليات هذه الشخصية يقول الدكتور الرملي إنها تعكس ثقافة الكاتب الرجل وتصوراته للحياة· فالمرأة هنا يضيف المحاضر''إما أنها قوية جدا أو ضعيفة جدا''· كما أن المسرح العربي بحسب اعتقاد الباحث العراقي بالغ في إظهار صورة المرأة كرمز، ولا ينظر إليها كلحم ودم وكأنوثة· واقترح الدكتور الرملي الذي يدرس في جامعة مدريد الإسبانية فكرة ''ضرورة أن تكتب المرأة عن نفسها''، بغرض تجاوز الفعل المسرحي الذي يهيمن فيه الرجل حتى لما يتعلق الأمر بتجسيد دور المرأة العربية· لكنه نبه إلى ضرورة تخلص المرأة العربية، وهي تكتب للمسرح من التراكم المسرحي، كما كتبه الرجال· واقترح تحويل الأعمال النسائية العربية في القصة والرواية إلى الخشبة·ومن بين العوائق التي تحول دون إقدام المرأة العربية على الكتابة المسرحية، ذكر الدكتور محسن الرملي مسألة عدم قدرة المرأة على البوح· وأوضح أنه لا يمكن للأدب أن يكون صادقا في خصوصيات المرأة، إلا إذا عبرت عنه المرأة بنفسها·ولدى تناولها الكلمة تحدثت الباحثة والكاتبة المسرحية العمانية آمنة الربيع عن موضوع الندوة من جانب الإشكال التالي ''لماذا المرأة تحديدا في المسرح العربي؟''، وقالت ''الجسد هو الذي وقع تحت جبروت الرمز· فقد تمت محاصرته وإحاطته بمجموعة من المفاهيم بغية السيطرة عليه''· مضيفة ''الجسد ليس لعبة''· وارتأت الدكتورة الربيعي الوقوف عند أعمال الكاتب المسرحي الراحل سعد الله ونوس، وبالضبط عند مسرحيته الشهيرة ''طقوس الإشارات والتحوّلات'' الذي ''تكاد تكون فيه المرأة أكثر بروزا، وأكثر مقاومة''، عبر بطلة المسرحية ''مؤمنة'' التي تواجه المجتمع· وقد أدخلنا ونوس، حسب الدكتورة أمينة الربيع في دواخل المرأة، في حوار يعكس الصورة الحقيقية للإنسان·وكان لمحاضرة الدكتورة الربيع وقع خاص لدى الحضور، فاعتبرها الدكتور نادر القنة نموذجا يخالف الطرح الذي قدمه الدكتور محسن الرملي· ومع هذا اتفقت الباحثة العمانية أمنة الربيع مع الرملي في قضية ضرورة تجاوز النظرية النمطية والرمزية في الكتابة المسرحية، وتعد أعمالها، حسب الدكتور القنة، نموذجا صادقا لهذا التجاوزات..
--------------------------------------
*عن صحيفة (الخبر) الجزائرية، وموقع المسرح دوت كوم، May 2007, 07:15

الثلاثاء، 10 مارس 2009

حوار / عن الترجمة



حوار مع الدكتور محسن الرملي


أجرته: الجمعية الدولية للمترجمين واللغوين العرب/واتا

*الدكتور محسن الرملي أديب ومترجم وأكاديمي وصحفي، فأين يجد نفسه أكثر بين كل هذه الميادين؟.
ـ أجد نفسي في الأدب أولاً ومن ثم في كل ما هو أدبي في الميادين المذكورة الأخرى كالصحافة والترجمة والعمل الأكاديمي، فالأدب هو الذي قادني إليها جميعاً.
*ما هي أنواع الكتب التي تجذبك وتطالعها غالبا؟.
ـ الكتب الأدبية بشكل عام، سواء أكانت إبداعية أو دراسات نقدية. إضافة إلى نماذج أخرى منتقاة من الكتب التاريخية والأنثروبولوجية والفلسفية.
*ما هي أهم الدوريات التي نشرت فيها؟.
ـ الدوريات والمنابر العربية والأجنبية التي نشرت فيها كثيرة ويصعب حصرها، لكنني أعتقد بأن ما نشرته في الملحق الثقافي لصحيفة الموندو الإسبانية قد كان الأهم من حيث الصدى الواسع الذي حققه بحيث تمت إعادة نشره في أكثر من منبر ناطق بالإسبانية سواء في إسبانيا نفسها أو في أمريكا اللاتينية، كما تمت ترجمته إلى أكثر من لغة.
*ما هي أبرز الإنجازات التي حققتها مؤسستكم (ألـواح) منذ تأسيسها في مدريد سنة 1997؟.
ـ على الرغم من أنها مشروع قائم على جهد شخصي لمثقفين اثنين فقط إلا أنها حققت الكثير من الأهداف التي تأسست من أجلها، ومن ذلك مثلاً ما كان في أعوام الدكتاتورية والحصار على العراق عملنا على أن نجعل من مشروعنا جسراً تعبر عليه نصوص من كانوا في الداخل إلى من هم في الخارج والعكس، وكذلك جسراً بين النتاجات الجديدة للشباب العرب (مغاربة ـ مشارقة)، إضافة إلى متابعة جديد الثقافات الأخرى، وخاصة الناطقة بالإسبانية، والترجمة منه والإخبار عنه. نشرنا نصوصاً كان من الاستحالة نشرها في داخل العراق مثلاً.. أو حتى في أي منبر عربي آخر، ومنها على سبيل المثال الملفات أو الأعداد التي خصصناها لمواضيع: الإيروتيكية، البحث عن الإله، الأدب العربي الرديء وغيرها.. كما أقمنا بعض المعارض الفنية في إسبانيا لفنانين عرب وعراقيين، واستثمرنا اسم ألواح، أيضاً، بالمشاركة في دعم وتسهيل حصول العديد من أصدقائنا المثقفين على حق اللجوء إلى دول أخرى سواء أكانوا أفراداً أو مع عائلاتهم.. وعلى الرغم من هذا ومن الكثير الذي فعلناه إلا أننا نشعر بأنه قليل جداً قياساً إلى ما تمنينا ونتمنى فعله وقياساً إلى ما يحتاجه ويستحقه المشهد الثقافي العراقي والعربي.
*ما هي المشاريع التي تحلم بإنجازها وما هي الطموحات التي تسعى لتحقيقها؟.
ـ مثل أي مثقف آخر، دائماً هناك مشاريع آمل إنجازها مستقبلاً وهي عموماً في إطار الكتابة والترجمة الأدبيين.
*ما هي أهم أبحاثك في مجال اللغويات والترجمة؟.
ـ عدا القراءات النقدية للأساليب اللغوية لبعض الأعمال الأدبية وأراء شخصية في عملية الترجمة، فإن ما كتبته مما يتعلق باللغويات والترجمة هو قليل ويكاد ينحصر في الميدان الأكاديمي، حيث درست الكلمات والأمثال وبعض التراكيب اللغوية ذات الأصل العربي في لغة الدون كيخوته إضافة إلى مقال عن شخصية المترجم في هذا العمل العالمي الخالد.
*هل اقتصر اختصاصك على الترجمة في مجال معين؟.
ـ نعم، فحتى الآن اقتصر على الشؤون والنصوص الأدبية بأنواعها شعراً ونثراً وشهادات إضافة إلى الأجناس الصحفية الأخرى المتعلقة بالأدب أيضاً.

*كيف كانت تجربتك في أول كتاب ترجمته؟.
ـ عند ترجمتي للكتاب الأول، لم تكن الترجمة بجديدة علي لأنني كنت قد سبقتها بترجمة الكثير من النصوص القصيرة ونشرها في الصحف لذا لم يكن الفارق كثيراً باستثناء المزيد من الجهد والمزيد من الإحساس بالمسؤولية.
*كيف كان شعورك عندما مارست الترجمة لأول مرة؟.
ـ أعتقد بأنه الإحساس باللذة ذاته سواء كان عند الترجمة الأولى أو الأخيرة، نوع من الشعور بالرضى كونك قد أنجزت شيئاً ما.. وهو شعور مشابه أيضاً لجهد الكتابة ولذتها إلى حد بعيد.
*هل تعتقد أن المبدعين العرب من أمثالك قد نالوا حقهم من الأضواء أو الانتشار؟ ولماذا؟.
ـ فيما يتعلق بي شخصياً وبأعمالي الأدبية الإبداعية وترجماتي فأنا راض بما نالته من تلقي وقراءات أو إضاءات، كما تصفها، وذلك لأنني مازلت أعتبر نفسي في بداية مشواري الحقيقي حتى الآن. أما عن الآخرين فأعتقد بأن هناك الكثيرين من المبدعين العرب ممن لم ينالوا وأعمالهم حتى الآن ما يستحقونه من انتشار.
*ما هي المشاكل التي تواجهها كليات اللغات والترجمة، في نظرك؟.
ـ المشاكل كثيرة، ولكن أبرزها هي تلك المشكلة التي سرعان ما تنتاب غالبية المؤسسات الرسمية العربية، وأعني انتهائها بالركون إلى الرتابة والروتينية وتوقفها عن الابتكار والإبداع وعن السعي الدائم للتجدد والتجديد واستثمار المعطيات العصرية المتطورة باستمرار.. لذا يتحول من يعمل فيها إلى مجرد موظف ينتظر نهاية الشهر كي يقبض راتبه، والطالب إلى مجرد دارس للمقرر من المنهج بهدف الحصول على الشهادة في نهاية الموسم الدراسي.
*ما هي برأيك الشروط المصاحبة لدراسة لغة غير اللغة الأم؟.
ـ عدا ضرورة توفر الرغبة الحقيقية للتعلم كشرط أول وأساسي، أرى بأن يحاول الدارس التعرف والاطلاع بأوسع وأكبر قدر ممكن على عموم ثقافة اللغة التي يريد تعلمها، وأعني هنا الفنون والآداب والعادات والتقاليد والتاريخ وغيرها، فهي من جهة تعينه كثيراً على تعلم وفهم تراكيب ودلالات اللغة التي يتعلمها ومن جهة أخرى تيسر له سبل التعامل لاحقاً مع أبناء ومنتجات ثقافة هذه اللغة المدروسة.
*يقال أن المترجم بطبعه إنسان غير اجتماعي ولذا لا ترى روح الفريق الواحد تشيع بين المترجمين الذين يعملون في إدارات وهيئات ومنظمات كبير، ما السبب وراء ذلك؟.
ـ هذا قول نسبي، فكون إنسان اجتماعي أو غير اجتماعي إنما يعود في الأصل لطبيعة كل شخصية منفردة على حدا وليس للمهنة، ولا أتفق مع وصم المترجمين بشكل عام بكونهم غير اجتماعيين، فيما هم يتعلمون ويتعايشون مع ثقافتين ومجتمعين مختلفين أو أكثر وغالباً ما ينجحون في ذلك ويكونون جسوراً بينها، أما عن كونهم يفضلون العمل الفردي على الجماعي أثناء ممارسة عملية الترجمة ذاتها فهو في رأيي عائد لكون الترجمة في جانب كبير منها فن وإبداع لكل فيها أسلوبه وخصوصيته في طبيعة العمل مما يجعل المترجم يشعر بالعب وعدم الانسجام عندما تتداخل الأساليب وطرق العمل والمفاهيم على نص واحد.
*ما هي أهم المخاطر التي تحدق باللغة العربية؟.
ـ ربما أهم المخاطر هو في اعتبار البعض لها بأنها (مقدَّسة)، الأمر الذي يعيق أية نية لمراجعتها وتحديثها وخاصة فيما يتعلق بقواعدها التي مرت عليها قرون وتشكل الآن عائقاً كبيراً أمام الأجانب الذين يرغبون بتعلمها، بل أنها قواعد تصعب حتى على الغالبية من الناطقين بها. لذا أرى أن تأخذ على محمل الجد تلك النداءات التي دعت إلى مراجعة قواعدها وتبسيط ما يمكن منها.
*لماذا لا يتم إحياء مشروعات الترجمة الكبرى التي كان لها الفضل في ازدهار حضارتنا مثل "مدرسة طليطلة" في إسبانيا و"دار الحكمة" في بغداد؟.
ـ هذان المشروعان التاريخيان في الترجمة قد تم إحيائهما بالفعل وبشكل ناجح، حيث قدمت (دار المأمون) في بغداد الثمانينات سلسلة مهمة ومدعومة ومنتقاة من الكتب المترجمة التي نفعتنا كقراء في حينها كثيراً وبقي ما أنتجته يمثل ركناً ثرياً في مكتباتنا، ولكن للأسف توقف هذا المشروع مبكراً ويحتاج إلى إعادة تفعيل جديدة، أما عن (مدرسة طليطلة) فهي موجودة ومستمرة في مدينة طليطلة نفسها لكن المؤسف أيضاً هو توقف مشروعها من سلسلة إصدارات ذاكرة المتوسط التي كانت تنتقي بعض مذكرات المبدعين العرب وتنقلها إلى ثمان لغات أوربية في وقت واحد.


*هل من كلمة توجهها لمكتب تنسيق التعريب في المغرب/ أو المنظمة العربية للثقافة والتربية والعلوم في تونس؟.
ـ نعم، فقط أقول لهم: إننا نسمع بكم ولا نراكم!!.
*هنالك حالة من التأخر سواء في الترجمة أو النشر، لمن تعزي الأسباب ومن يتحمل المسؤولية في نظرك؟.
ـ سوء حال الترجمة والنشر لدينا هو جزء من سوء الحال العام على كل أصعدته.
*من في رأيك مهمته أصعب: المترجم الفوري أم المترجم التحريري؟
ـ بلا شك إن مهمة المترجم الفوري هي الأصعب.
*ما أهم الصعوبات التي تواجه المترجم العربي؟.
ـ إيجاد دار نشر تتبنى طباعة ونشر عمله وتنصفه مادياً. جِد لي ناشراً عربياً منصفاً وسأجد لك من يترجم لك العمل الذي تريد من أية لغة شئت.
*وما هي مشاكل المترجم الغربي؟.
ـ حتماً هم لهم مشاكلهم أيضاً ولكنها لا تُقاس بحجم وطبيعة مشاكلنا، فأصدقائي من المترجمين الغربيين يعيشون بشكل جيد من خلال عملهم في الترجمة فقط، ومع ذلك فهم يطالبون كل يوم بالمزيد من الحقوق التي صارت في بعض الأحيان تكاد تشابه حقوق المؤلف الأصلي، ومن ذلك مثلاً نسبة في واردات البيع ونسبة من الـ 10% المستحصَلَة سنوياً كضريبة عن الاستنساخ وغيرها، بعضهم يشكوا أيضاً بأنه لا يجد دار نشر تتبنى ما يختاره هو وفق ذائقته الخاصة وإنما تأتيه الأعمال مقررة من قبل دور النشر. وفي محاضرتي التي ألقيتها في معرض الكتاب في مدريد بدعوة من رابطة المترجمين والكتاب الأسبان، أثارتهم الشواهد التي عرضتها عليهم في كون المترجم العربي، وعلى الرغم من أنه مهضوم الحق مادياً، إلا أنه يحظى بتقدير معنوي كبير فيحوز شهرة ويوضع اسمه على غلاف الكتاب أسوة بالمؤلف، وذلك لأن المعتاد لديهم هو أن يوضع اسم المترجم داخل الكتاب ضمن قائمة المعلومات الخاصة بالنشر وبخط صغير، وقد أثار هذا الأمر جدلاً واسعاً بينهم وأدرجوه ضمن الحقوق التي سيسعون للمطالبة بها.. وأعرف شخصياً منهم من صار يصر على وضع هذا الأمر كشرط في عقوده مع الناشرين ونجح في ذلك.
*ما رأيكم في إشكالية المصطلح في العالم العربي؟ وكيف السبيل إلى حلها؟.
ـ إشكالية المصطلح لا يقتصر وجودها على العالم العربي فحسب وإنما هي إشكالية موجودة في كل العالم بنسب متفاوتة، وهي إحدى الإشكاليات التي نبهت إليها الفلسفة مبكراً وأكد عليها برجسون معزياً إلى الاختلاف في فهم المدلولات لكل مصطلح الكثير من الاختلافات الفكرية والثقافية، لذا لا أعتقد بأن لها حلاً حاسماً وخاصة كونها نتاجاً لغوياً وثقافياً، ومن طبيعة نتاج من هذا النوع هو استحالة إخضاعه الكامل للتصنيف العلمي المادي وتفصيل زياً موحداً للدلالات ومداليلها، بل على العكس أرى في تباين فهمها هذا جزء من ثراءها وهو من صلب تركيبة مكوناتها أصلاً.
*يشير أحدث تقارير اليونسكو عن التنمية الثقافية العربية إلى أن ما ترجمه العرب من جميع اللغات إلى لغتهم خلال الألف سنة الماضية لا يساوي ما ترجمته إسبانيا في سنة واحدة في عصرنا، ما ردك على هذا القول؟.
ـ هذا صحيح للأسف، ولا يعود السبب إلى قلة في المترجمين، فأنا أعتقد بأن العرب لديهم من المترجمين، من حيث العدد والجودة، ما ليس لدى أية أمة أخرى وعن كل اللغات، والعرب مشهود لهم بسرعة تعلمهم للغات وقدرتهم على ضبط لفظها ومعايشتها أكثر من غيرهم، هذا إضافة إلى ما أنتجته الملايين المهاجرة منهم من طاقات لم يتم استثمارها عربياً بالشكل الصحيح حتى الآن، إذاً فهي طاقة أخرى من الطاقات العربية المهدورة وغير المستَثمَرَة بالشكل الصحيح. وكان جبرا إبراهيم جبرا يقول:" لو أن كل عربي حصل على الماجستير أو الدكتوراه، في أي حقل من حقول المعرفة، في إحدى جامعات العالم الخارجي، نقل إلى العربية كتاباً واحداً فقط من الكتب التي درسها أو رجع إليها أو أُعجب بها، لكانت لدينا الآن مكتبة تراجم رائعة.. وإذا لم يحدث ذلك، وإذا لم يترجم كل عربي تثقف بالمعارف المعاصرة، أكثر من كتاب واحد، فإننا سنبقى متخلفين. إذا افترضنا أن الحياة العلمية والعملية لمثل هذا المثقف تقاس، مثلاً، بخمس وعشرين سنة، ألا يحق لنا أن نتوقع منه (إلا إذا كان مؤلفاً إبداعياً، فإننا حينئذ سنكتفي به مؤلفاً ونحسد أنفسنا عليه) كتاباً واحداً يترجمه كل خمس سنوات؟. وبذلك يحقق لنا ـ وهذا أضعف الإيمان ـ ترجمة خمس كتب مهمة، على الأقل، طوال حياته الفاعلة". وهذا أمر يمكن تطبيقه، لو أن كل جامعة أو مؤسسة، مثلاً، فرضت على العائد من الخارج لتعيينه ما طالبه به جبرا إبراهيم جبرا وتبنت هي نشر ما يترجمه، أو تقوم وزارات التعليم أو الثقافة أو دور النشر الرسمية بتبني الأمر.. وهكذا.
*هل يمكن لكم أن تحدثوننا عن واقع الترجمة من الإسبانية في العالم العربي؟.
ـ منذ بداية عقد الثمانينات في القرن الماضي وحتى اليوم انتعشت الترجمة إلى العربية من الإسبانية بشكل كبير وخاصة في مجال ترجمة الأدب بفضل الإقبال الواسع على ما حققه أدباء اللغة الإسبانية وخاصة الأمريكولاتينيين، بحيث صار الكم المترجم عن الإسبانية يساوي وينافس وقد يتغلب في بعض الأحيان على ما اعتدنا عليه سابقاً من ترجمات عن الإنكليزية والفرنسية، وبرزت أسماء لامعة كثيرة وتستحق كل الاحترام والتقدير من المترجمين العرب عن الإسبانية، منها (على سبيل المثال لا الحصر) : الدكتور طلعت شاهين، صالح علماني، إبراهيم الخطيب، عبدالهادي سعدون والدكتور رفعت عطفة وغيرهم.
*ما نصيحتك للمترجم العربي كي يطور من قدرته وكفاءته؟.
ـ أن يقرأ ويقرأ ويقرأ.. ثم يترجم.
*يلاحظ أن هنالك حلقة مفقودة بين المترجمين الكبار والمترجمين الشباب بحيث لا يستفيدون من خبراتهم، كيف يمكن إحداث هذا التواصل (إعادة هذه الحلقة)؟.
ـ لا أظن بأن لهذه (الحلقة المفقودة) من وجود، فالمترجمين الشباب هم، بديهياً، يمثلون امتداداً لمن سبقهم، لأنهم إما أن يكونوا قد درسوا وتخرجوا على أيدي الأساتذة الذين سبقوهم، أو أن يكونوا، على الأقل، قد قرأوا لهم ما ترجموه وما كتبوه من تنظيرات في ميدان الترجمة. والأمر، أيضاً، يعتمد على مدى جدية المترجم الشاب في احترافه للترجمة أو حرصه على الإلمام ومعرفته بأجيال وأعمال سلفه من ممتهنيها.
*تمر الحضارات وثقافات الأمم والشعوب بأزمة حقيقية في ظل العولمة. حسب رأيكم، ما هو السبيل إلى صون خصوصية الأمة العربية بالذات في خضم العولمة؟.
ـ أن تَعرف هذه الأمة نفسها أولاً، أن تُدرك ما هي خصوصيتها، وما هي هويتها.. وما الذي تريده تحديداً، ثم بعد ذلك نتحدث عن (سبل الصون!).
*لماذا يقال أن في الترجمة الأدبية إعادة كتابة أو إعادة خلق أكثر من كونها ترجمة وذلك لأن المترجم يعيد كتابة النص الأدبي كل بطريقته أو أسلوبه الخاص؟.
ـ لأن العمل الأدبي يختلف عن غيره ـ كالعلمي أو الوثائقي ـ في كون اللغة هي بدنه وروحه ومادة نسيجه الفني وتكوينه الأساسية، وكما يقول بورخس إن أصل مفهوم الترجمة الحرفية ليس أدبياً. وغابريل غارثيا ماركيز يبدي إعجابه بمترجمين رواياته فيقول:" أعتقد بأن أعمالي قد أعيد إبداعها بالإنكليزية تماماً، فهناك أجزاء يصعب نقلها حرفياً. لدي انطباع بأن المترجم قد قرأ الكتاب كله ثم أعاد كتابته بالاعتماد على ذاكرته؛ لهذا فأنا معجب بالمترجمين، إنهم حدسيون أكثر منهم عقلانيين وليس المؤسف في أن الناشرين يدفعون لهم قليلاً فحسب، بل إنهم لا يعتبرون عملهم كإبداع أدبي!". إذاً فالترجمة الأدبية هي إبداع أيضاً، لذا فأنا أتفق تماماً مع ما قاله محمود درويش هنا في مدريد عند تقديم أحد أعماله المترجمة إلى الأسبانية، قال: أشكر المترجم الذي هو شريكي بتأليف هذا الكتاب باللغة الإسبانية.
*لماذا يعاد ترجمة الأعمال الأدبية الكبيرة إذا ما عرفنا أن (هاملت) قد ترجمت أربع مرات من قبل كل من الدكتور عبد القادر القط وزارة الإعلام بالكويت 1971، والدكتور محمد عوض، الطبعة الثالثة، القاهرة، دار المعارف، 2000 وجبرا إبراهيم جبرا بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر الطبعة الثالثة 1990 وآخرها ترجمة الدكتور جمال عبد المقصود 2004 على سبيل المثال؟.
ـ ولمَ لا؟ مادام لكل مترجم أسلوبه وله قُراء ومتلقين يفضلونه ويثقون به أكثر من غيره، وهذا أمر غالباً ما يحدث مع ترجمة الأعمال الكبيرة إلى مختلف لغات العالم، فقد حدث مع (هاملت) نفسه في الإسبانية أيضاً، و(الدون كيخوته) تمت ترجمته إلى الإنكليزية أكثر من عشر مرات، وسوف يُترجم مستقبلاً مرات أخرى.. وهكذا.
*هل يمكن ترجمة الشعر ـ حصرا ـ ويمكن أن تحقق الترجمة نفس التأثير في الثقافة واللغة المترجم إليها؟.
ـ بالتأكيد يمكن ترجمة الشعر.. أوليس هذا ما يحدث على مدى كل هذه القرون!. أما عن مدى تأثيره فهو حتماً يختلف من ثقافة إلى أخرى، ولكنه سيؤثر على أية حال، حتى وإن كانت ترجمته خاطئة أو ناقصة، ولنا شاهد على ذلك بتأثيرات الترجمات ـ بما فيها الخاطئة ـ للشعر الأوربي إلى العربية في منتصف القرن الماضي، وما أحدثته هذا الترجمات من فتح لآفاق التجريب والثورة المتمثلة بانتقالة الشعر العربي من الكلاسيكي العمودي إلى الحر ومن ثم مروراً بتجارب أخرى متنوعة فيه وصولاً إلى قصيدة النثر اليوم.
*بماذا تنصح المترجمين الشباب؟.
ـ أن يعززوا قناعتهم بكون الترجمة عمل نافع على الصعيدين العام والخاص، فهي على الصعيد العام بمثابة رسالة نبيلة ينفعون من خلالها مجتمعهم وثقافتهم، وعلى الصعيد الخاص فهي مهنة شريفة ومحترمة تفتح الكثير من الأبواب وفرص كسب الرزق، وأن مستقبلها دائم لا ينتهي.
*هل من كلمة أخيرة توجهها للمترجمين؟.
ـ كلمات شكر وامتنان حقيقية فبفضل صبرهم وعملهم تعلمنا الكثير الكثير.
*جزيل الشكر على جهودكم.
ـ شكراً لكم أنتم، أيضاً، على جهودكم.
------------------------------------------------------------------
*أجريت من قبل ونشرت في موقع الجمعية الدولية للمترجمين العرب، بتاريخ 8/11/2004م.

الاثنين، 9 مارس 2009

نص / محسن الرملي


" أفأمِنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يُرسل عليكم حاصِباً ثم لا تجدوا لكم وكيلا. أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفاً من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا"
قرآن كريم/سورة الإسراء/الآيات 68، 69

إذا كان الحاصب: هو الريح المهلكة في البَر.
والقاصف: هو الريح المهلكة في البحر.
.. فـإلى أيـن الـمَـفَـر؟!؟.
------------------------------------------------
محسن الرملي

ليلة كتابة ليالي القصف
حين عدتُ من الأندلس إلى بيتي في مدريد قادماً من مظاهرة اشترك فيها أكثر من عشرة آلاف شخص، نظمتها أحزاب اليسار والهيبيون والمثليون الجنسيون والمعارضون للعولمة والمدافعون عن البيئة وحقوق الحيوان.. سرنا فيها من وسط مدينة قادش، مدينة ألبرتي الذي تمنى أيام كان منفياً أن يكون زهرة في وطنه كي تأكله بقرة من وطنه، أو تقطفه طفلة من وطنه، أو يحمله، على أذنه، فلاح من وطنه، وأن يُدفن في تراب وطنه.. وها أنا الآن منفياً في وطنه أتمنى أن أكون زهرة في وطني.. لأنني مثله أشعر بأنني وحيد بلا وطني.
سرنا من مقهى ألبرتي وسط قادش حتى قاعدة مورون الأمريكية على شاطئ البحر المتوسط. لكل جماعة أو حزب أسباب اعتراضه على وجودها، وأنا العراقي الوحيد، وسط هذا الحشد، بلا حزب وبلا جماعة، واعتراضي أنها قاعدة انطلاق الطائرات التي قصفت بلدي، فكنتُ أهتف بكل شعارات المظاهرة أكثر من غيري، لكنني أردد في قلبي شعاري الخاص وسؤالاً واحداً لإسبانيا، متذكراً ما قدمه لها زرياب العراقي: لماذا نمنحكِ الموسيقى وتمنحينا القذائف؟.. لماذا؟.
لحظتها كنتُ أنظر من وراء سياج الحديد وسور الشرطة إلى الطائرات السود الجاثمة بأحجامها الضخمة كديناصورات.. هذه طائرات قد وصلت إلى بلدي وحطمت جسوراً.. ومتاحف وحدائق ومدارس وبيوت، وقتلَت جنوداً كان بعضهم أصدقائي، وأطفالاً مختبئين مع أمهاتهم في الملاجئ.. هذه طائرات قصفت بغداد وعادت لتحط هنا بطمأنينة على ساحل البحر، بالقرب من عرايا الصيف، يسهر على سلامتها عساكر يصعدون بالسلالم ويمسحون مناقيرها، ينظفون العلَم الأمريكي وزجاج مقصورة القيادة من ذرق العصافير غير مكترثين بصرخاتنا نحن المتظاهرين هنا.. وجدت نفسي وجهاً لوجه أمام طائرة قرب السياج، أحدق في عيونها وهي تحدق في عينيّ.. كنا نحاور بعضنا بصمت مثل ديكين يتأهبان للتصارع، كنا نحدق ببعضنا، وجهاً لوجه.. وجهاً لوجه، بعداء وأسئلة ووجع مرير.
عدت متعباً وألقيت بجسدي على الكنبة ثم شغلت التلفاز فكانت الأخبار تتحدث عن قصف طائرات التحالف للعراق. كالعادة؛ كان التلفاز يقصفنا يومياً بأخبار القصف، فأطفأته وتناولت الجريدة لأجد فيها إسرائيل تقصف المخيمات الفلسطينية وجنوب لبنان، ألقيتها وخرجت إلى شوارع المدينة. جلست في مقهى فوجدت الذين بجواري يتحدثون عن قصف التحالف لأفغانستان. تركت فنجاني على منتصفه ورحت أسير على الأرصفة. مررتُ من أمام دار للسينما فوجدت ملصقاتها تعلن عن فلم جديد حول حرب فيتنام. سارعتُ خطاي ثم دلفت إلى مكتبة فوجدت أكثر الكتب مبيعاً (تاريخ القصف) لسفن لندكفيست.. لحظتها شعرت بأن القصف يحاصرني.. لا مفر من القصف.. القصف.. القصف.. في كل الأمكنة، في كل الأزمنة، من كل الجهات، من كل الأشياء.. وكل شيء قصف، فاشتريت كتاب التاريخ وعدت أدراجي إلى دار السينما، شاهدتُ فيها فيلم حرب فيتنام وقنابل النابالم تحرق الأطفال العراة والحقول الخضراء. عدت إلى المقهى، طلبتُ فنجان قهوة آخر وشاركت الآخرين حديثهم عن قصف التحالف لأفغانستان ثم رجعتُ إلى البيت. قرأت الجريدة التي تصف مقتل أطفال الحجارة الفلسطينيين تحت قصف طائرات ف16 الإسرائيلية بأنه: موت أثناء تبادل إطلاق النار. فهل قذفوا الطائرات بالحجارة فكان من حق الطائرات أن تدافع عن نفسها؟.. ثم فتحت التلفاز واستسلمت لأخبار القصف حتى منتصف الليل.
كنت أرى كل شيء بمثابة قصف؛ الإعلانات وبرامج المسابقات وفضائح الممثلين وقُبل العشاق والهواء المتسلل من النافذة. جسدي مُنهك لكن ذهني بكامل يقظته يطرد عني كل بوادر النعاس.. وهكذا واصلت اجتراري لأخبار القصف، قراءاتي وذكرياتي عنه، التاريخ والأرقام والموتى والأغاني والتبريرات وفراق أحبة ودم ومدافن وحرائق ومنافي وحديد وكلمات ونار وتكسير عظام ونظرات شرهة وأخرى دامعة.. كل شيء هو قصف، أو تبادل قصف، تبادل النظرات، تبادل الكلمات/الشتائم، الصراخ، النصائح، الصفع، الأبوة، الأخوة، المحبة، الحقد، الاغتصاب أو ممارسة الحب، فرض وجهات النظر، السير في الشوارع، قرع الأرصفة بالأحذية، الحديث، الأكل، التعليم، السفر، الرسائل والكتابة حيث قصف الأوراق بالحبر والتفكير.. ياه.. ما أصعب التفكير!، التغوط، الانتظار، النوم، الموت. وجدتني أرى كل شيء في هذا العالم عبارة عن قصف، فظننت بأنني قد عثرت على الرؤية أو النافذة التي أستطيع عبرها فهم هذا العالم.. فهل بمستطاع أحد أن يفهم العالم وإن ظن ذلك؟.. لا أحد على الإطلاق.. لا أحد.. إلا أن أي كائن سيتمكن من تكوين رؤية ما، أو اتخاذ زاوية للنظر إليه.. وكل شيء يصلح لذلك، أعرف كُتاباً آخرين تناولوه عبر مفردات أخرى كالحدود والمراحيض والمؤخرات والفروج والغائط والحب والحرب والسفر واللغة.. أي أنك تستطيع أن تختار أية مفردة كالزبالة مثلاً فتروح تبحث عن معانيها اللغوية وتاريخها وطرق التعامل معها عند مختلف الشعوب وذكرياتك عنها وما قاله الآخرون.. عندها ستجد بأن كل العالم قائم على طبيعة تشكيلات الزبالة.. وهكذا أية كلمة أخرى؛ اخترها وانشغل بها، اجمع المعلومات والذكريات والآراء والأقوال والتحليلات ستجد بأنك قد كونت رؤية ما عن العالم وتظن، مِثلي، بأنك قد توصلت إلى فهمه.. ركز جهودك في شيء واكتب كتابك عن شيء، اشغل فراغك فالسعادة ألا تجد وقت فراغ كما يقول همنغواي، وأوهم نفسك بالمعنى.. فلو تناول كل إنسان هذا العالم عبر مفردة واحدة وكتب كتابه ربما سنستطيع جمع هذه الكتب معاً.. ألهذا قال بورخيس بأننا جميعاً نكتب كتاباً واحداً؟. سنضم هذه الكتب في غلاف واحد، شظايا رؤى كشظايا مرآة محطمة، نلصقها ببعضها ونكون مرآة هائلة واحدة، الرؤية الكبرى، مرآة ترينا وجه الحقيقة عبر اجتماع أجزاء حقيقاتنا الفردية أو المفردية تماماً كحكاية العميان مع الفيل؛ الذي لمس أذنه قال بأن الفيل بطانية، والذي لمس ساقه قال بأنه اسطوانة، ومن لمس خرطومه وصفه بأفعى غليظة، ومن لمس نابه وصفه بالسيف.. الكل على حق؛ كلٌ فيما عرف، ومن مجموع حقائقهم تكتمل حقيقة الفيل.. كنت مستغرقاً بهذه الأفكار حتى قررت الكتابة عن القصف، سأكتب ما أعرف، ما أجمع، ما أهذي، ما أتذكر، تواريخ، كتب، أقوال، أرقام، قصائد وحكايات.. لدي حكايات كثيرة ولأصدقائي أيضاً.. نظرت إلى ساعة الحائط لحظتها فوجدتها تشير إلى الثانية والنصف بعد منتصف الليل وفي مثل هذه الساعة بالتوقيت العراقي بدأ القصف على بغداد في ليلة 16 ـ 17 من كانون الثاني سنة 1991 .. هبت العاصفة، واشتعلت السماوات والأراضي. كنت أنا حينها أبكي في جوف الدبابة البارد، فيما أمي تكاد تختنق بفساء أحفادها الذين حبستهم معها في غرفة مغلقة، سدت نوافذها بالكرتون والبلاستك خشية القصف الكيميائي. هربتُ من الحرب مع ابن عمي وأسكرنا الجحش الصغير في قرية (الفأرة) على إيقاع أخبار القصف والأغاني الأجنبية، قَبلَها كانت دار العدالة المائلة في كركوك تهتز مع دوي القصف الهاطل على آبار النفط ومشاعل النار الأزلية، فيما يغير صديقي (قاطع) علاقته بالمراحيض بفضل حادث قصف، ويحدثني الأفغاني عن ابن عمه الذي ولِد تحت القصف الإنكليزي وأحب فاطمة تحت القصف السوفيتي ثم مات معها في عرسهما تحت القصف الأمريكي، أما صديقي الذي يعيش الآن في قرية متجمدة شمال كندا فلا يتذكر من الحرب، في رسائله، إلا بكاء الناقة مسعودة على ولدها سعيد الذي مزقه القصف في صحراء السعودية..
انتبهت إلى أنني لم أتناول عشائي حتى الآن.. لكنني/كأني/كنتُ سعيداً بمواجهتي لمفردة القصف، حالماً بإمكانية رفع الصوت المعترض أعلى من دوي القذائف.. نهضت عن الكنبة وتوجهت فوراً إلى طاولة المطبخ، تناولت علبة زيتون، فتحتها، ورحت ألتهم حباتها فيما أكتب أولى صفحاتي.. قاصفاً بياض الورقة بسواد الحبر.. أكتب وأكتب وسأكتب.. حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.
------------------------------------
*نص من كتاب (ليالي القصف السعيدة).

الجمعة، 6 مارس 2009

قصة / محسن الرملي

محسن الرملي
 
ليلة قصف ضاحكة
حين اشتد القصف على بغداد قررنا أن نسكر، نحن الهاربان من الجيش الداخل إلى الكويت. لم نذق خمراً أو بيرة من قبل. الهارب تعدمه الحكومة، لكن الحكومة لن تنشغل بقريتنا لأنها صغيرة ومنسية في البريّة، ولهذا تسمى (الفأرة)؛ بضع بيوت تعيش على بئر مالح يلف جوفه الطابوق وتسبح في قاعه ثعابين ملونة جميلة، لدغها عض خفيف كقَرص أنامل الأم لخد طفلها، وإن لدغت لا تقتل، لا سُم فيها ولا خير فيها أكثر من دقائق يلعب بها الصبية المتحلقون حول البئر ترقب عيونهم الدلو الطالع على صرير بكرة الخشب التي حز منتصفها حبل الصوف. لم ير أحد الخمر في قريتنا سوانا أنا وسلطان ابن عمي لأننا في الجيش والأستاذ موسى لأنه درس في المدينة وأصبح المعلم الوحيد ـ هنا ـ لمدرسة الطين التي بناها أهل القرية: غرفتان صغيرتان، واحدة لموسى (الإدارة) وأخرى صف يجمع فيه طلاب المراحل الست وهم ستة طلاب فقط؛ في كل مرحلة طالب، يفترشون بساطين حاكتهما جدتي ورسمت عليهما عصافير ونجوماً وكلاباً. الأستاذ موسى يملأ غرفته بالزجاجات والكتب ولا يلتزم بتعليم الطلبة كتب وزارة التربية وإنما يحفظهم ألفية ابن مالك وأشعار (أبو نؤاس) ولهذا فإن الناس هنا يعرفون أبا نؤاس أكثر مما يعرفون رئيس الجمهورية، وإن سألوا عن الزجاجات التي يجلبها في صناديق كلما ذهب إلى المدينة على دراجته ـ آخر كل شهر لاستلام راتبه ـ قال لهم:" إنه دواء.. رأسي يؤلمني دائماً". وحدنا أنا وسلطان ابن عمي عرفنا أنه خمر لأننا عشنا مع جنود من كل العالم العراقي ولم نكشف ذلك لأهل القرية الذين اكتفوا بمعرفتهم لاسم الخمر ـ ومقته ـ من خلال خطب إمام الجامع الذي يحذرهم منه في كل جمعة وهو نفسه لا يعرفه. الفوانيس مطفأة والناس نيام والكلاب تدور حول البيوت غير نابحة لأنها لا تنبح إلا على الغرباء والذئاب أو بقرة أو حمار انفلت من حبله. قصدنا بيت الأستاذ موسى، وحين اقتربنا من دكة نومه المحاطة بزرب من قصب ككل دكات أهل القرية، سمعنا صوت المذياع يبث أخبار القصف وصوت الأستاذ موسى شاتماً:" أولاد الخنازير، أبناء العاهرات..".
سحب سلطان ذراعي وهمس لي بالتراجع لكنني مانعت وقدته معي حتى دنونا من الدكة وناديت:" أستاذ موسى، أستاذ موسى". فسكت صوت المذياع، نزل الأستاذ وهو يحكم ربط سرواله ويقرب وجهه من وجهينا كي يتبينها على ضوء القمر فشممنا رائحة المعتق في أنفاسه. صمتنا ونحن لا نعرف ماذا نقول له حتى سمعت سلطان يغص بجملة شاكية وهو يوشك على البكاء:" إنهم يدمرون بغداد يا أستاذ".
أطرق موسى برأسه لبرهة ثم استدار إلى دكة نومه وصعد. سمعنا امرأته تسأله:" إلى أين؟". وهو يجيبها:" إلى المدرسة". ثم نزل وفي إحدى يديه المذياع الصغير وقميص وفي الأخرى زجاجة وقال:" هيا بنا". فسرنا معاً في دروب القرية الصامتة إلا من هسهسة الحصى تحت أقدامنا.
قال وهو يدفع إليّ الزجاجة كي يرتدي قميصه:" المسكينتان؛ زوجتي والزجاجة، كنت أشتد عليهما كلما اشتد القصف". وصلنا المدرسة المجاورة للبئر في أطراف القرية وفتح الأستاذ قفل باب غرفته (الإدارة) بمفتاح مربوط على رسغه بسلسلة صغيرة، دفع الخشب وسحب من خلفه صخرة بحجم الحذاء وضعها أمامه كي يبقى مفتوحاً ثم أشعل عود ثقاب وتقدم إلى الحائط المقابل فأوقد فانوساً معلقاً عليه بمسمار طويل أصبح لونه أسود هو والبقعة المحيطة بالفانوس بفعل الدخان، منضدة خشبية، كرسيان، رفوف كتب، صور لوجوه لا نعرفها تبدو عليها ملامح الجدية والتفكير، خريطة قديمة للعالم، لوحات وفي الزاوية تراكمت صناديق زجاجات الخمر، أكثرها فارغ وبعضها لم يفتح. صار الأستاذ وراء المنضدة وسحب صندوقاً فارغاً أعطاني إياه فجلست عليه وجلس قبالتي سلطان على كرسي والأستاذ على كرسيه الآخر.
وضعت الزجاجة التي في يدي على المنضدة وتناول هو زجاجة جديدة أوقفها إلى جانبها ثم أخرج من العتمة ثلاثة كؤوس وجرة ماء وصحناً وقِدراً ثقيلاً ومنفضة وضعها كلها تباعاً. شرعنا، أنا وسلطان بترتيبها، لكنه أعاد ترتيبها بشكل آخر كي يتسع سطح المنضدة للمذياع وعلبة السجائر وكتاب.
فتح القِدر فإذا به ملئ بحبوب الباقلاء المسلوقة. غَرفَ منها بكفه حتى ملأ الصحن وأنزل القِدر ثم مسح أصابعه بمنشفة معلقة على زاوية مسند كرسيه، سكب في الكؤوس من الزجاجة خمراً ومن الجرة ماء ووزعها علينا ثم أعقبها بسجائر أشعلها لنا، وأخرجنا نحن علب سجائرنا لنضعها على الطاولة أيضاً فيما ضغط هو على زر المذياع وراح يقلب خيطه بين المحطات التي كانت كلها تتحدث عن تفاصيل قصف التحالف لبغداد.
كان الأستاذ موسى يملأ كأسه ويفرغها في فمه دفعة واحدة، يزداد في ذلك كلما ازدادت أنباء القصف، أما نحن فنرتشف من كؤوسنا ببطء، نتشمم ونستطعم ونكرز حبوب الباقلاء، نحدق بالأستاذ بصمت.. شعره منفوش، قميصه مفتوح، ملامحه محطمة ومتوقدة في آن.. لم يكن على هيئته التي يعرفها الناس ويوقرونها، وجهه أكثر شبهاً بوجوه الصور المعلقة على الجدران لكنه بلا لحية ولا نظارات ولا إصبع على صدغه أو كف على ذقنه كما في بعضها.( ما أسعد العيش لو أن الفتى حجرٌ/ تجلو الحوادث عنه وهو ملموم). بدت تغضنات وجهه ـ رغم حدتها ـ واضحة تشير إلى عمر تجاوز الأربعين.
شعرنا؛ سلطان وأنا بدوار بعد انتهائنا من كأسين وصحن باقلاء وسجائر لا ندري عددها، بينما يزداد هو انفعالاً فيضرب حافة المنضدة بكفه أو يصفع فخذه كلما اشتد القصف في المذياع وأصابعه تطارد المحطات.. وبعد فترة لا نعرف طولها، كسر هو الصمت حين راح يحدثنا عن بغداد في عهد أبي نؤاس وأسماء أشخاص آخرين سمعنا ببعضها ولا نعلم عنها شيئاً، أما هو فيتحدث عنها وكأنه يعرف كل هؤلاء الناس بأسرار وتفاصيل حياتهم وأفكارهم.. تكلم عن أبي نؤاس كثيراً، نوادره.. ضحكنا، أشعاره في الخمر والولدان، ثم انتقل للحديث عن ذكرياته أيام دراسته في بغداد ولقائه بالسياب وحسين مردان وعن مقهى حسن عجمي والمقهى البغدادي في شارع أبي نؤاس على شاطئ دجلة حيث حضر سهرة غنى فيها يوسف عمر. ووجدت نفسي أعيد عليهم قصة حبي لفضيلة البغدادية أيام تأجيرنا لغرفة متداعية في (حي الفضل)، عندما كنا أنا وسلطان نتدرب في معسكر الرشيد، فكرر سلطان عبارته التي يقولها لي كلما تحدثت عن فضيلة ـ ربما هذه المرة بقصد تخفيف قلقي عليها ـ:" أمها أجمل منها".. فصحت به:" أسكت أبو العجائز". ضحكنا وملأ الأستاذ موسى صحن الباقلاء مرة أخرى وهو يعقب:" إن للعجائز جمالياتهن الخاصة".
وأبصرنا فأرة تقترب من القشور المتناثرة على الأرض، تتشممها، فحاول سلطان طردها:" هش.. هش". فلم تهرب،"لماذا لا تهرب؟" أجابه الأستاذ:" وإلى أين تهرب، هذا وطنها، هي فأرة واسم هذه القرية الفأرة".. لا أتذكر ربما ضحكنا عندها وعاودنا الصمت لنتابع أخبار القصف، وقد أصبحنا نشرب كؤوسنا دفعة واحدة مثله، وأصبح سمعنا أقل وضوحاً ونطقنا أكثر صعوبة. سأل سلطان عن معنى كلمة (تحالف) التي تتردد كثيراً في الأخبار، وراح الأستاذ يفسر له ويتحدث عن تحالفات الحروب العالمية والخروف الأسود والخروف الأبيض والرجل المريض، وقال سلطان:" لم أفهم".
صمت الأستاذ قليلاً ثم نهض ووقف تحت الفانوس، أنزل سرواله، أخرج عضوه، حركه بيده حتى تمدد وانعكس ظله على الجدار المقابل للفانوس بحجم مدفع وقال:" تعالوا هنا وافعلوا ما فعلت". فنهضنا وخلعنا سراويلنا وحركنا أعضاءنا، فقال:" اقتربوا" فاقتربنا حتى تقاربت أعضاؤنا فجمعها في قبضته وقال لسلطان:" أتُرى لو أدخلنا هذه الأشياء مجتمعة في أستك.. في خمستك، ألا تشققها؟". قال سلطان:" بلا". فقال الأستاذ:" هذا هو التحالف.. ارفعوا سراويلكم". وما أن أكملنا ربط سراويلنا حتى سمعنا وقع خطوات تدنو من الباب، فسكتنا ورحنا نتطلع إلى بعضنا وإلى الباب بتوجس وانتظار إلى أن أطل علينا رأس جحش صغير، ناصباً أذنيه، فعلق الأستاذ:" ربما يريد أن يشترك في التحالف أيضاً" فضحكنا وأضفت:" أو يريد أن يسكر". قال موسى:" هاه.. صحيح لا بد أنه عطشان". وقفنا قليلاً ننظر إلى الجحش والجحش ينظر إلينا حتى أشار لنا الأستاذ أن نحمل صندوقاً مليئاً بالزجاجات المليئة ففعلنا وتبعناه إلى البئر، وهو يحمل المذياع بعد أن وضع مؤشره على محطة تبث أغنيات أجنبية راقصة. رفعنا الدلو، فككنا عنه الحبل ثم رحنا نفتح الزجاجات ونسكبها فيه بمرح حتى أوشك على الامتلاء، فقربناه إلى الجحش الذي أنزل بوزه فيه، تشممه ولم يشرب، رفع هامته وظل واقفاً في مكانه ينظر إلينا. نهضنا إليه وأمسكناه بقوة حتى غطسنا منخريه في الخمر فكَرع وانتفض واهتاج ثم سكن، فيما جلسنا نحن على حافة جابية الماء حيث رائحة صوف الأغنام والأرض المغطاة بالبعرور؟ كان القمر يمرق بين الغويمات، يسطع ويختفي وبغداد بعيدة عنا لكنها أقرب الصور في رؤوسنا.
الجحش واقف في مكانه بعد أن أدار رأسه عنا وراح يحدق في المدرسة التي تبعد عنه عشرة أمتار تقريباً، وفجأة انطلق راكضاً صوبها بكل قوته حتى نطح الجدار برأسه وارتد ساقطاً على مؤخرته فانفجرنا بالضحك عليه وصفقنا له. نهض بهدوء وعاد ليقف في مكانه السابق، وقفته السابقة؛ محدقاً في المدرسة للحظات رفع الأستاذ خلالها صوت الأغنيات الأجنبية. انطلق الجحش مرة أخرى بسرعة: طُربك.. طُربك.. طُربك.. طراااااخ؛ نطحَ الجدار بقوة وارتد ساقطاً على الأرض فصفقنا له ونحن نضحك ملء أفواهنا حتى سقطنا على الأرض ممسكين ببطوننا ونتدحرج على الحصى والتراب والبعرور. نهض الجحش مرة أخرى وعاد إلى مكان وقوفه فنهضنا نرقص مع إيقاع الأغاني، نترنح والجحش يعاود انقضاضاته على الجدار مرة بعد مرة. جدار (الإدارة) انفطر ونحن بلنا في سراويلنا من شدة الضحك، نسقط وننهض. الجحش يحدق، يركض، ينطح، يسقط، ينهض ويعاود.. هكذا حتى همد في مكانه لا يستطيع الحراك، فحملنا المذياع والدلو نطوف به على حمير القرية واحداً واحداً، نسقيه عنوة ثم نفك حبله ونطلقه، حتى أطلقناها كلها سكرانة، تركض: طُربك.. طُربك..طُربك.. تنطح الجدران: طراااخ، والكلاب تنبح خلفها: طُربك.. عو.. عو عو طُربك، حتى استيقظت القرية كلها عند الفجر وهي تطارد حميرها وكلابها وتضحك: طُربك عو هاه هاه هاه.. طُربك طُربك.. عو عوووو.. خا خا خا.. طُربك عوو وخا خا.. طراااااااخ خ خ.
---------------------------------------
*من كتاب (ليالي القصف السعيدة).

من الصحافة / مصادرة كتاب الرملي !

-------------------------------------------


قصة / محسن الرملي


محسن الرملي


أنا وأنت والناقة مسعودة في عاصفة الصحراء

هاأنذا حرٌ أخيراً. بلغت في الأمس الثانية والأربعين من عمري واحتفلت وحدي بذلك ليلاً حيث أعيش الآن آمناً في قرية شمال كندا يغطيها الثلج على مدار العام، صحراء من الثلج المنجمد بعد أن أمضيت أعواماً في صحراء من الرمل الملتهب، جندياً في الجيش العراقي، سبعة أشهر في الكويت وبعدها سنين من الأسر في مخيم رفحاء السعودي، منحوني منه اللجوء وأقلوني بطائرة إلى هنا.. من صحراء الرمل إلى صحراء الثلج. دائماً كان الآخرون هم الذين يتحكمون بي ويقررون مصيري، منذ البداية، منذ أوامر أبي وأوامر المعلم ثم أوامر الحكومة والجيش والأمم المتحدة.. لكنني الآن حرٌ في قريتي الكندية، منحوني بيتاً ومصروفاً وتأميناً صحياً وعلموني الإنكليزية والكمبيوتر والإبحار في الانترنيت حيث أمضي معظم الوقت وحيداً أتنقل بين الشاشتين: التلفزيون والكمبيوتر، وتصلني الصحف مجاناً. أنا حر أخيراً وإن كنت لا أدري ماذا أفعل بحريتي، لكن الحرية كانت حلمي طوال العمر الفائت وها هي ملكي، فألجأ لاجترار الذكريات وتمطيط الأحلام بانتظار شيء ما، وهي عادة تعلمتها منذ أيام السجن في العراق ثم الخفارات الطويلة في الجيش أثناء حربيّ الخليج الأولى والثانية وأعوام الأسر في معسكر رفحاء. ولكن كلما مر بسمعي أو بعينيّ ذكر حرب الخليج الثانية أو (عاصفة الصحراء) تذكرت دموع الناقة مسعودة واختزلت كل ذكرياتي عن الحرب بصورتها جالسة أمام أشلاء ولدها رافضة للأكل على مدى ثلاثة أيام، ثم هديرها وسط هدير الهجوم. هناك في رمال صحراء شبه الجزيرة العربية كنا جنوداً نجاهد من أجل البقاء وسط تهديدات جيوش التحالف أمامنا ولجان الإعدام خلفنا والسماء المكتظة بالطائرات فوقنا والصحراء الحارقة تحتنا أو نحن الذين تحتها في خنادق هي مدافن متحركة لنا ولدباباتنا ومدافعنا، علينا أن ننام فيها بأعين مفتوحة وأكثر من جندي خفر كي لا ينهار علينا الرمل ونحن نيام أما العقارب والأفاعي واليرابيع فهي أقل تهديداً من كل ذلك. قيل بأن دول التحالف أكثر من ثلاثين وجيوشها هنا هي خلاصة قوة العالم مجهزة بآخر وسائل التقنية الحديثة والأسلحة المتطورة، لذا قال لنا ضابط التوجيه السياسي: علينا ألا نخاف وسوف نحاربهم بقوة رجولتنا والسحر حيث سيتمكن الراعي منا من أن يرى طائرة الشبح بعينيه ويلوحها بعصاه. دون أن يفسر لنا كيف سيتم ذلك، وراحت إذاعة بغداد تقصف الأعداء بسيل من الشتائم التي يطلقها الشعراء الشعبيّون في قصائدهم، ووزعت علينا قيادة الفرقة أزواجاً من الحمام الزاجل والجِمال لكي تكون وسائط لنقل البريد والأوامر بين وحداتنا باعتبارها أفضل وسيلة تحتمل هذه الصحراء وأكثرها أماناً حيث يستحيل على أجهزة الأعداء الحديثة وأقمار تجسسهم الصناعية من كشف رسائلنا وشفراتنا، وكان نصيب سريتنا زوج حمام زاجل وناقة مع حوارها (ابنها) أسماهما معتمد البريد وعريف القلم مسعودة وسعيد، فيما أطلقا على زوج الحمام أسمي (أنا وأنت) الذكر أنا والأنثى أنت. وكل فرد في وحدتنا كان يتمنى لو أنه أحد زوجي الحمام أنا أو أنت كي يهرب بعيداً.. بعيداً، يلقي برسائل الحرب في موج الخليج ويطير إلى خارج الحدود.. بعيداً عن الجيوش المتقابلة في الصحراء.. بعيداً إلى آفاق بلا حدود.
طعامنا كتل الخبز الجاف والتمر، لذا أصابنا الإسهال فكان التمر يخرج من بطوننا دبساً أسود مخلوطاً بدم الأمعاء فيترك على رمل الصحراء خيوطاً تشبه علامات الاستفهام، لذا فكر البعض بأكل زوج الحمام عقوبة لهما على عودتهما بالرسائل المثقلة بالأوامر العسكرية. كان كل شيء بحساب، لتران من الماء وحفنة تمر وعشر سجائر لكل جندي، لذا كان المدخنون منا يحملون معهم الاحتياط من أكياس التبغ، يتسلون بلف سجائرهم أثناء الخفارات وعند الانبطاح طويلاً خلف تلال المراصد.. قيل فيما بعد بأن الاستخبارات العدوة قد التقطت لنا الكثير من الصور ونحن نخرج ألسنتنا لها فكانت حائرة من ذلك وخائفة، معتقدة بقوة معنوياتنا وأننا نسخر منها، فيما الحقيقة هي أننا كنا نبلل ونلصق أطراف أوراق سجائر اللف الرقيقة بأطراف ألسنتنا، كما قيل بأنهم قد حاروا وعجزوا بكل قوتهم الاستخبارية من تحليل جهاز كان يحمله جنودنا معهم ويبتعدون به ليلاً أو نهاراً ثم يغوصون في الرمال لفترة معه وبعدها يطلعون عائدين به إلى مواضعهم. الجهاز صغير له مقبض واحد وهوائي قصير ورقبة شبيهة بالجرة وأن صور الأقمار الصناعية والأشعة فوق البنفسجية المرسلة إليه كي تحلله لا تكشف شيئاً من تكوينه.. ولم يكن هذا الجهاز إلا إبريق من البلاستك نحمل فيه الماء حين نبتعد عن ملاجئنا للتغوط.
وذات ليلة قصف سقطت قذيفة على الحوار سعيد فنثرت أشلاءه. فرحنا بذلك لحظتها حيث سنشوي اللحم صباحاً عندما يخف القصف مثلما سيخف بريد رسائل الأوامر بفقد إحدى الوسائط، ولكننا حين خرجنا من خنادقنا مع الفجر وجدنا الناقة مسعودة جاثية أمام أوصال ولدها والدمع يجري من عينيها كأبناء آدم تماماً.. عندها نسينا جميعاً شهوتنا إلى اللحم المشوي ورحنا نجمع أوصال سعيد أمام أمه محاولين إعادة تشكيل هيئته قدر الإمكان ثم غادرنا إلى واجباتنا وبقيت هي على جلستها حتى اليوم الثاني فقررنا دفن بقايا سعيد، لذا أوقفني الضابط أمام وجهها كي لا ترى الدفن، فرحتُ أجفف عينيها بأكمام قميصي، أربت على رأسها وأداعب رقبتها ماسحاً بحنان، فكانت تحني هامتها ويزداد انهمار الدمع من عينيها على جزمتي، لحظتها فكرت بأمي لو أن القذيفة القادمة ستكون من نصيبي، لذا قرفصت أمام رأس مسعودة واحتضنته باكياً بصمت كي لا يراني بقية الجنود الذين انتهوا من دفن سعيد فقالوا دعها الآن.. وابتعدنا فرأيناها تزحف دون أن تنهض حتى وصلت إلى قبره وشرعت بتشمم الرمل واستنشاقه.. ساد الحزن علينا جميعاً لثلاثة أيام كانت فيها مسعودة ترفض كل ما نقدمه لها من طعام وماء، كما لم يجرؤ معتمد البريد على استخدامها واكتفى برسائل زوج الحمام. في اليوم الرابع اشتد القصف علينا من مدافع الأرض وبوارج البحر وطائرات السماء حيث بدأ هجوم التحالف مطراً من القذائف والنار فرحنا نلوذ ذعراً متفرقين وسط الأودية والخنادق والكثبان مبتعدين عن أسلحتنا من دبابات ومدافع وراجمات صواريخ لأنها كانت هدفاً أكيداً لأول هجوم التحالف. كنا نراها تتفجر حولنا وتحلق شظاياها في الفضاء وسط اللهب والدخان والرمل وعروق الشوك والصبار ورؤوس الجنود القريبين منها. مطر من القذائف، رعود قاصفة، دوي وانفجارات وهدير حديد. قصف. وكان آخر ما رأيت في مواضعنا مسعودة تزحف فوق مدفن سعيد وتغطيه ببطنها، تصك أسنانها، يشتد رُغائها وتهدر بالشقشقة. قصف، قصف، قصف فتفرقنا في كل الاتجاهات، كل منا يتوقع موته بعد لحظة، لذا كان يستغفر الله عما ارتكبه في الإجازات مردداً الشهادة بوحدانيته ومتذكراً على عجل صور الأهل والأحبة، تالياً ما يحفظه من آيات القرآن التي يعتقد بأنها ستحفظه دون أن يكف بحثه عن الخلاص، بعضنا انسحب إلى الخلف، بعضنا غاب على الجانبين.. تاه في الجهات، فيما تقدم البعض الآخر إلى الأمام ، وأنا منهم، حاملين بأيدينا مناديل بيضاء أو ورق أبيض لمن ليس لديه منديل، مثلي، حيث رفعت عالياً آخر رسالة من أمي.. وأسروني. ضربني جندي عربي ملتحي بأخمص بندقيته على صدري فسقطت وقيدني، فتقدمت إلي جندية شقراء سقتني الماء ثم رفعتني إلى الناقلة فنقلوني إلى معسكر رفحاء حيث بقيت لأعوام هناك ثم نقلوني بعدها بالطائرة إلى هنا.. إلى قريتي الكندية البيضاء. متخيلاً بأن زوج الحمام (أنا وأنت) قد نال حريته أيضاً ولجأ إلى أرض آمنة، لذا ربما يكون مع حشد هذا الحمام الذي أراه من نافذتي في ساحة القرية، أو ربما يكون الآن مع أسراب حمام ساحات روما أو حمام ساحة (بوابة الشمس) وسط مدريد أو يذرق على هامة تمثال الحرية في نيويورك.. ولكن أين هي الآن الناقة مسعودة؟.
----------------------------------------
*نص من كتاب (ليالي القصف السعيدة).