الاثنين، 9 مارس 2009

نص / محسن الرملي


" أفأمِنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يُرسل عليكم حاصِباً ثم لا تجدوا لكم وكيلا. أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفاً من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا"
قرآن كريم/سورة الإسراء/الآيات 68، 69

إذا كان الحاصب: هو الريح المهلكة في البَر.
والقاصف: هو الريح المهلكة في البحر.
.. فـإلى أيـن الـمَـفَـر؟!؟.
------------------------------------------------
محسن الرملي

ليلة كتابة ليالي القصف
حين عدتُ من الأندلس إلى بيتي في مدريد قادماً من مظاهرة اشترك فيها أكثر من عشرة آلاف شخص، نظمتها أحزاب اليسار والهيبيون والمثليون الجنسيون والمعارضون للعولمة والمدافعون عن البيئة وحقوق الحيوان.. سرنا فيها من وسط مدينة قادش، مدينة ألبرتي الذي تمنى أيام كان منفياً أن يكون زهرة في وطنه كي تأكله بقرة من وطنه، أو تقطفه طفلة من وطنه، أو يحمله، على أذنه، فلاح من وطنه، وأن يُدفن في تراب وطنه.. وها أنا الآن منفياً في وطنه أتمنى أن أكون زهرة في وطني.. لأنني مثله أشعر بأنني وحيد بلا وطني.
سرنا من مقهى ألبرتي وسط قادش حتى قاعدة مورون الأمريكية على شاطئ البحر المتوسط. لكل جماعة أو حزب أسباب اعتراضه على وجودها، وأنا العراقي الوحيد، وسط هذا الحشد، بلا حزب وبلا جماعة، واعتراضي أنها قاعدة انطلاق الطائرات التي قصفت بلدي، فكنتُ أهتف بكل شعارات المظاهرة أكثر من غيري، لكنني أردد في قلبي شعاري الخاص وسؤالاً واحداً لإسبانيا، متذكراً ما قدمه لها زرياب العراقي: لماذا نمنحكِ الموسيقى وتمنحينا القذائف؟.. لماذا؟.
لحظتها كنتُ أنظر من وراء سياج الحديد وسور الشرطة إلى الطائرات السود الجاثمة بأحجامها الضخمة كديناصورات.. هذه طائرات قد وصلت إلى بلدي وحطمت جسوراً.. ومتاحف وحدائق ومدارس وبيوت، وقتلَت جنوداً كان بعضهم أصدقائي، وأطفالاً مختبئين مع أمهاتهم في الملاجئ.. هذه طائرات قصفت بغداد وعادت لتحط هنا بطمأنينة على ساحل البحر، بالقرب من عرايا الصيف، يسهر على سلامتها عساكر يصعدون بالسلالم ويمسحون مناقيرها، ينظفون العلَم الأمريكي وزجاج مقصورة القيادة من ذرق العصافير غير مكترثين بصرخاتنا نحن المتظاهرين هنا.. وجدت نفسي وجهاً لوجه أمام طائرة قرب السياج، أحدق في عيونها وهي تحدق في عينيّ.. كنا نحاور بعضنا بصمت مثل ديكين يتأهبان للتصارع، كنا نحدق ببعضنا، وجهاً لوجه.. وجهاً لوجه، بعداء وأسئلة ووجع مرير.
عدت متعباً وألقيت بجسدي على الكنبة ثم شغلت التلفاز فكانت الأخبار تتحدث عن قصف طائرات التحالف للعراق. كالعادة؛ كان التلفاز يقصفنا يومياً بأخبار القصف، فأطفأته وتناولت الجريدة لأجد فيها إسرائيل تقصف المخيمات الفلسطينية وجنوب لبنان، ألقيتها وخرجت إلى شوارع المدينة. جلست في مقهى فوجدت الذين بجواري يتحدثون عن قصف التحالف لأفغانستان. تركت فنجاني على منتصفه ورحت أسير على الأرصفة. مررتُ من أمام دار للسينما فوجدت ملصقاتها تعلن عن فلم جديد حول حرب فيتنام. سارعتُ خطاي ثم دلفت إلى مكتبة فوجدت أكثر الكتب مبيعاً (تاريخ القصف) لسفن لندكفيست.. لحظتها شعرت بأن القصف يحاصرني.. لا مفر من القصف.. القصف.. القصف.. في كل الأمكنة، في كل الأزمنة، من كل الجهات، من كل الأشياء.. وكل شيء قصف، فاشتريت كتاب التاريخ وعدت أدراجي إلى دار السينما، شاهدتُ فيها فيلم حرب فيتنام وقنابل النابالم تحرق الأطفال العراة والحقول الخضراء. عدت إلى المقهى، طلبتُ فنجان قهوة آخر وشاركت الآخرين حديثهم عن قصف التحالف لأفغانستان ثم رجعتُ إلى البيت. قرأت الجريدة التي تصف مقتل أطفال الحجارة الفلسطينيين تحت قصف طائرات ف16 الإسرائيلية بأنه: موت أثناء تبادل إطلاق النار. فهل قذفوا الطائرات بالحجارة فكان من حق الطائرات أن تدافع عن نفسها؟.. ثم فتحت التلفاز واستسلمت لأخبار القصف حتى منتصف الليل.
كنت أرى كل شيء بمثابة قصف؛ الإعلانات وبرامج المسابقات وفضائح الممثلين وقُبل العشاق والهواء المتسلل من النافذة. جسدي مُنهك لكن ذهني بكامل يقظته يطرد عني كل بوادر النعاس.. وهكذا واصلت اجتراري لأخبار القصف، قراءاتي وذكرياتي عنه، التاريخ والأرقام والموتى والأغاني والتبريرات وفراق أحبة ودم ومدافن وحرائق ومنافي وحديد وكلمات ونار وتكسير عظام ونظرات شرهة وأخرى دامعة.. كل شيء هو قصف، أو تبادل قصف، تبادل النظرات، تبادل الكلمات/الشتائم، الصراخ، النصائح، الصفع، الأبوة، الأخوة، المحبة، الحقد، الاغتصاب أو ممارسة الحب، فرض وجهات النظر، السير في الشوارع، قرع الأرصفة بالأحذية، الحديث، الأكل، التعليم، السفر، الرسائل والكتابة حيث قصف الأوراق بالحبر والتفكير.. ياه.. ما أصعب التفكير!، التغوط، الانتظار، النوم، الموت. وجدتني أرى كل شيء في هذا العالم عبارة عن قصف، فظننت بأنني قد عثرت على الرؤية أو النافذة التي أستطيع عبرها فهم هذا العالم.. فهل بمستطاع أحد أن يفهم العالم وإن ظن ذلك؟.. لا أحد على الإطلاق.. لا أحد.. إلا أن أي كائن سيتمكن من تكوين رؤية ما، أو اتخاذ زاوية للنظر إليه.. وكل شيء يصلح لذلك، أعرف كُتاباً آخرين تناولوه عبر مفردات أخرى كالحدود والمراحيض والمؤخرات والفروج والغائط والحب والحرب والسفر واللغة.. أي أنك تستطيع أن تختار أية مفردة كالزبالة مثلاً فتروح تبحث عن معانيها اللغوية وتاريخها وطرق التعامل معها عند مختلف الشعوب وذكرياتك عنها وما قاله الآخرون.. عندها ستجد بأن كل العالم قائم على طبيعة تشكيلات الزبالة.. وهكذا أية كلمة أخرى؛ اخترها وانشغل بها، اجمع المعلومات والذكريات والآراء والأقوال والتحليلات ستجد بأنك قد كونت رؤية ما عن العالم وتظن، مِثلي، بأنك قد توصلت إلى فهمه.. ركز جهودك في شيء واكتب كتابك عن شيء، اشغل فراغك فالسعادة ألا تجد وقت فراغ كما يقول همنغواي، وأوهم نفسك بالمعنى.. فلو تناول كل إنسان هذا العالم عبر مفردة واحدة وكتب كتابه ربما سنستطيع جمع هذه الكتب معاً.. ألهذا قال بورخيس بأننا جميعاً نكتب كتاباً واحداً؟. سنضم هذه الكتب في غلاف واحد، شظايا رؤى كشظايا مرآة محطمة، نلصقها ببعضها ونكون مرآة هائلة واحدة، الرؤية الكبرى، مرآة ترينا وجه الحقيقة عبر اجتماع أجزاء حقيقاتنا الفردية أو المفردية تماماً كحكاية العميان مع الفيل؛ الذي لمس أذنه قال بأن الفيل بطانية، والذي لمس ساقه قال بأنه اسطوانة، ومن لمس خرطومه وصفه بأفعى غليظة، ومن لمس نابه وصفه بالسيف.. الكل على حق؛ كلٌ فيما عرف، ومن مجموع حقائقهم تكتمل حقيقة الفيل.. كنت مستغرقاً بهذه الأفكار حتى قررت الكتابة عن القصف، سأكتب ما أعرف، ما أجمع، ما أهذي، ما أتذكر، تواريخ، كتب، أقوال، أرقام، قصائد وحكايات.. لدي حكايات كثيرة ولأصدقائي أيضاً.. نظرت إلى ساعة الحائط لحظتها فوجدتها تشير إلى الثانية والنصف بعد منتصف الليل وفي مثل هذه الساعة بالتوقيت العراقي بدأ القصف على بغداد في ليلة 16 ـ 17 من كانون الثاني سنة 1991 .. هبت العاصفة، واشتعلت السماوات والأراضي. كنت أنا حينها أبكي في جوف الدبابة البارد، فيما أمي تكاد تختنق بفساء أحفادها الذين حبستهم معها في غرفة مغلقة، سدت نوافذها بالكرتون والبلاستك خشية القصف الكيميائي. هربتُ من الحرب مع ابن عمي وأسكرنا الجحش الصغير في قرية (الفأرة) على إيقاع أخبار القصف والأغاني الأجنبية، قَبلَها كانت دار العدالة المائلة في كركوك تهتز مع دوي القصف الهاطل على آبار النفط ومشاعل النار الأزلية، فيما يغير صديقي (قاطع) علاقته بالمراحيض بفضل حادث قصف، ويحدثني الأفغاني عن ابن عمه الذي ولِد تحت القصف الإنكليزي وأحب فاطمة تحت القصف السوفيتي ثم مات معها في عرسهما تحت القصف الأمريكي، أما صديقي الذي يعيش الآن في قرية متجمدة شمال كندا فلا يتذكر من الحرب، في رسائله، إلا بكاء الناقة مسعودة على ولدها سعيد الذي مزقه القصف في صحراء السعودية..
انتبهت إلى أنني لم أتناول عشائي حتى الآن.. لكنني/كأني/كنتُ سعيداً بمواجهتي لمفردة القصف، حالماً بإمكانية رفع الصوت المعترض أعلى من دوي القذائف.. نهضت عن الكنبة وتوجهت فوراً إلى طاولة المطبخ، تناولت علبة زيتون، فتحتها، ورحت ألتهم حباتها فيما أكتب أولى صفحاتي.. قاصفاً بياض الورقة بسواد الحبر.. أكتب وأكتب وسأكتب.. حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.
------------------------------------
*نص من كتاب (ليالي القصف السعيدة).

ليست هناك تعليقات: