الجمعة، 6 مارس 2009

قراءة / مفيد عزيز البلداوي

مفيد البلداوي

عن " ليالي القصف السعيدة "

مفيد عزيز البلداوي
لا تستطيع وأنت تقرأ "ليالي القصف السعيدة" للقاص محسن الرملي أن تسدّ أذنيك بقطنة أو رصاصة كي تتجنب أصوات الانفجارات وربما رؤية احمرار الشظايا ـ إذا كنت قد شاركت في حرب ما، وإن لم، فستصبح رساماً في مخيلتك ـ لوحتك ساحة الحرب.. وأقلامك صواريخ وقنابل.. وألوانك رماد وشظايا وأشلاء متناثرة لكائنات كانت حيّة.
إنه "استثمار أوسع للإمكانيات التي يتيحها فن القص" كما جاء في كلمة الغلاف الأخير.. وطاقة قصوى بتحولاتها من شكل لآخر لاستخدام اللغة ومدلولاتها في المفردة والتركيب.. والأهم من هذا هو تدوين للتاريخ المعاصر والمحاصر بطائرات ومدافع وبنادق كلها تقصف.. وألسنة تتقاصف، وسرد عراقي لا يقل تأثيره قصفاً على القارئ لأنه، كما قلت، سيكون في ساحة معركة وسيخرج منها خاسراً.. لا بدّ.
القصص الست في نهاية الكتاب أمثولة ناضجة للمجلدات الثلاث الأولى، لذا آليتُ أن أقف أمامها متدرعاً بورقة تستقرئ مناخها المفرط بالحقائق التي تصلح أن تكون الوجه الآخر والأبشع للحرب ومخلفاتها.

القاسم المشترك
لا يربط بين السرديات الست خيط رفيع.. بل قاسم مشترك أكبر، وإن كانت خمس منها تتحدث عن جو حرب واحدة لأزمنة مختلفة، والسادسة معها في طريق مليئة بالحفر التي خلفتها القنابل.. لكن في جغرافية أخرى. والقاسم المشترك الأكبر هذا مؤسس على وجود القاصف والمقصوف وآلية الاستجابات.
ففي القصة الأولى: لم تعد الأم ـ التي كانت مستعدة لسدّ الثقب الذي صنعته بنفسها في الشباك لمنع السموم الآتية من قنابل القصف وحماية أطفالها ـ لم تعد خائفة لأنها، وهم بشر وليس نعاجاً، استجابة قدرية..!.
وفي القصة الثانية:.. سكر أقرب إلى الصحوة وتمرير سريع لمفردة التحالف بسخرية باذخة: "حين اشتد القصف على بغداد قررنا أن نسكر.. نحن الهاربان من الجيش الداخل إلى الكويت" ص91.. استجابة ضاحكة.
وفي القصة الثالثة: "بعد أن طالت الحرب لأعوام.. لم تعد الأبقار تذعر من القصف مقتلعة أوتادها.. ولا تنفر الحمير رافسة أصحابها ولا تفر الكلاب بعيداً في الأفق.. ولا يبكي الأطفال لأنهم صاروا يطورون ألعابهم الحربية عبر المراقبة ويحلمون بالطيران" ص97.. استجابة مقنعة..!.
وفي القصة الرابعة: قاطع، يغير علاقته بالمراحيض نتيجة للقصف.. استجابة مبررة..!.
وفي الخامسة: جلال الأفغاني يولد تحت القصف ويحب تحت القصف ويموت هو وعروسه نتيجة للقصف.. استجابة.. إصرار على الحياة.
وفي القصة السادسة: "فكرتُ بأمي لو أن القذيفة تكون من نصيبي" ص116.. استجابة مقننة بحماية الموت من حياة مدمرة.

حـقـائـق
من صفات الحرب أنها كاذبة.. لا حقيقة فيها إلا الموت المباغت أو المُنتظَر، فثمة من يكون راكباً عربة الموت ولا يموت، وآخر أبعد ما يمكن عنه لكنه يموت.. تلك بداهة!.. والإعلام أكبر مفتعل للأكاذيب عن طريق الإذاعات والقنوات التلفزية والصحف، لأنها تجارة كلامية مسموعة مرئية، مقروءة تقوم على أنقاض الخبر هنا أو هناك..
يتعمد الرملي تمرير هذه التركيبات الكاذبة من خلال سرده.
القصة الأولى: كذب الحكومة أو أعدائها في حقيقة الكهوف المحفورة في المدينة الأثرية.. لا بد من وجود صادق وكاذب بين الجهتين، لكن النتيجة أن "ينفجر جبل مكحول.. وتهتز جدران الطين هنا، يرتجف سعف النخلات المتبقية" ص82.
القصة الثالثة: الأهالي يغيرون اسم الجسر الذي سمته الحكومة (جسر النصر) لأنهم ببساطة "لا يعرفون معنى النصر" ص98. فكل شيء فيه خسارة روح أو شيء بلا روح هو هزيمة.. وهنا حقيقة التمويه الذي تشيعه الأنظمة بين مواطنيها في مسميات لا تمت بصلة لواقع الناس.. وهذا كذب أيضاً.
والعالم الزائف والمزيف.. البعيد عن ادعاءاته حين يمارس أبشع أنواع التمييز العنصري ويهتم بشجرة (الجرنيكا) كأثر من آثار القصف لا يحول بصره إلى مكان آخر، لذا لا بد أن يوخز بمثل "أتخيل لو أننا نحن أيضاً، في العراق، أن نقيم متحفاً للمقصوفات، عندها لا بد أن نسوّر العراق بأكمله..!!.. هل رأيت في التلفزيون مشهد المليون نخلة في البصرة..؟.. بالنسبة لي فقد بكيت عندما رأيته" ص106.. هذا العالم لا تتحرك له قصبة وهو يراه.. وقد لا يعنيه إلا خوفه على مصالحه.
وفي أفغانستان كانت الحلوى قذائف والعيارات النارية المعبرة عن الفرح ربما مقاومة..!! لذا فقد برر العقيد الأمريكي الوسخ لصحافة العالم ـ ربما صدقوه ـ فعلتهم بـ "لست أدري ما كان يجري في تلك القرية.. كل ما أعرف أن أشخاصاً كانوا يطلقون النار.. ويقذفون طائراتنا بحفنات لامعة"ص112.
واللعبة في القصة الثالثة؛ قصة دار العدالة وجدارها المائل في أن جعل نهايتها باحتمالات شتى. فالميلان في دار العدالة أبعد من أن يكون مجرد جدران مللت عن وضعها المهندسة عليه لأسباب تخص التربة وإنما هو تقابل بين المفردتين (العدالة، الميلان) الرامزتين إلى بشاعة الإنسان عندما يضع ما يدمر به أحلامه وأحلام الآخرين ويفتعل الحرب.. الحرب التي تزهق الأرواح طاعة لمطامع شخصية ونزوات بشعة لمن يشيدون ناطحات سحاب لعدالة مائلة. الإنسان هو التربة والعدالة افتراض والميلان حقيقة. لذا سقطت العدالة كنتيجة حتمية لظرف غير طبيعي.. والاحتمالات في ما رُويَ عن الدار والعدالة ذيّلت القصة بالسؤال: "فهل استقامت دار العدالة؟"ص103.

مـصـيـريـات
إن المنلوج الثر في قصص الليالي مليء بما يتمنى الإنسان العراقي أن يقوله على مسامع الدنيا.. بعد أن مرت به مراحل سكوت مميتة. وهو الآن متمثل ببطل القصة الأخيرة عندما ينتابه الشعور بالحرية.. هذا الشعور الذي جاءه متأخراً فحيّر صاحبه: "أنا حُر أخيراً وإن كنت لا أدري ماذا أفعل بحريتي..!!"ص113. ربما لأنه لم يتعود عليها.. لم يلتقها مسبقاً.. لم تكن له تجربة بالتعامل معها.. وهو الآن منتقل ما بين صحراوين "صحراء من الثلج المنجمد في كندا.. صحراء من الرمل الملتهب في مخيم رفحاء"ص113.
"دائماً كان الآخرون هم الذين يتحكمون في مصيري منذ البداية، منذ أوامر أبي وأوامر المعلم ثم أوامر الحكومة والجيش والأمم المتحدة"ص113. وهذه ضربة لمواثيق الأمم التي فيها ما يخص الحق وينص على حق الفرد في تقرير مصيره.
وحقيقة الحرب البائسة تبدو أكثر بؤساً في هذا الواقع الممقوت الذي ينقله لنا المتحدث عن حريته: "كنا جنوداً نجاهد من أجل البقاء وسط تهديدات جيوش التحالف أمامنا ولجان الإعدام خلفنا والسماء المكتظة بالطائرات فوقنا والصحراء الحارقة تحتنا"ص113.. أيّ ثمن يدفع هذا الطامح إلى حريته.. ولماذا يكون محوراً في هذه اللوحة النارية؟!!.
و"طعامنا كُتل الخبز الجاف والتمر.. لذا أصابنا الإسهال فكان التمر يخرج دبساً أسود مخلوطاً بدم الأمعاء فيترك على الرمل خيوطاً تشبه علامات الاستفهام"ص114. في هذا تكامل واقعي مع الصورة أعلاه. فحين تكون الأفواه مغلقة بتهديدات الموت غير المسؤول، تكون في النفس تساؤلات ملحة ربما تخرج من الفم السفلي للإنسان المتكتم والمبركن بغضب الأحشاء الرافضة، لذا يكون الغائط مشابهاً لعلامات الاستفهام التي تحتم أن تكون هناك أسئلة بحاجة إلى أن تقال، ناهيك عن حاجتها إلى الأجوبة.. أبسطها: لماذا نموت؟!!.
وفي الفقرة الأخيرة يميل الرملي إلى تعرية الحقيقة المكتسبة بتوجع العربي من أخيه..!، وبيان ما يمكن أن يكون عليه تعامل الآخر مع هذين الأخوين، واحتمالات القصد من إنسانيته التي ربما كانت حقيقية.. مثلما كان التوجع بين الأخوين العربيين حقيقة.."وأسروني.. ضربني جندي عربي ملتح بأخمص البندقية على صدري. سقطتُ وقيّدني.. فتقدمت شقراء سقتني الماء"ص117.
كتاب "ليالي القصف السعيدة" يحتاج إلى أن يقال فيه أكثر من المستطاع وأن تعلق عباراته على جبين الحرب وتدق مساميره في قلبها لكي يتوقف عن نبضه المكروه.. يقول الرملي في الصفحة الأولى متذكراً المظاهرة التي شارك فيها احتجاجاً على القاعدة الأمريكية وكانت سبباً في كتابة هذا الكتاب: "سرنا من مقهى ألبرتي وسط قادش حتى قاعدة مورون الأمريكية على شاطئ البحر المتوسط، لكل جماعة أو حزب أسباب اعتراضه على وجودها وأنا العراقي الوحيد، وسط هذا الحشد، بلا حزب وبلا جماعة، واعتراضي أنها قاعدة انطلاق الطائرات التي قصفت بلدي.. فكنتُ أهتف بكل شعارات المظاهرة أكثر من غيري، لكنني أردد في قلبي شعاري الخاص وسؤالاً واحداً لإسبانيا، متذكراً ما قدمه لها زرياب العراقي: لماذا نمنحك الموسيقى وتمنحينا القذائف..!.. لماذا؟!!".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في مجلة (ضفاف) العدد 12 / السنةالخامسة/ بتاريخ: مارس 2003 النمسا.

ليست هناك تعليقات: