الجمعة، 6 مارس 2009

قصة / محسن الرملي


محسن الرملي


أنا وأنت والناقة مسعودة في عاصفة الصحراء

هاأنذا حرٌ أخيراً. بلغت في الأمس الثانية والأربعين من عمري واحتفلت وحدي بذلك ليلاً حيث أعيش الآن آمناً في قرية شمال كندا يغطيها الثلج على مدار العام، صحراء من الثلج المنجمد بعد أن أمضيت أعواماً في صحراء من الرمل الملتهب، جندياً في الجيش العراقي، سبعة أشهر في الكويت وبعدها سنين من الأسر في مخيم رفحاء السعودي، منحوني منه اللجوء وأقلوني بطائرة إلى هنا.. من صحراء الرمل إلى صحراء الثلج. دائماً كان الآخرون هم الذين يتحكمون بي ويقررون مصيري، منذ البداية، منذ أوامر أبي وأوامر المعلم ثم أوامر الحكومة والجيش والأمم المتحدة.. لكنني الآن حرٌ في قريتي الكندية، منحوني بيتاً ومصروفاً وتأميناً صحياً وعلموني الإنكليزية والكمبيوتر والإبحار في الانترنيت حيث أمضي معظم الوقت وحيداً أتنقل بين الشاشتين: التلفزيون والكمبيوتر، وتصلني الصحف مجاناً. أنا حر أخيراً وإن كنت لا أدري ماذا أفعل بحريتي، لكن الحرية كانت حلمي طوال العمر الفائت وها هي ملكي، فألجأ لاجترار الذكريات وتمطيط الأحلام بانتظار شيء ما، وهي عادة تعلمتها منذ أيام السجن في العراق ثم الخفارات الطويلة في الجيش أثناء حربيّ الخليج الأولى والثانية وأعوام الأسر في معسكر رفحاء. ولكن كلما مر بسمعي أو بعينيّ ذكر حرب الخليج الثانية أو (عاصفة الصحراء) تذكرت دموع الناقة مسعودة واختزلت كل ذكرياتي عن الحرب بصورتها جالسة أمام أشلاء ولدها رافضة للأكل على مدى ثلاثة أيام، ثم هديرها وسط هدير الهجوم. هناك في رمال صحراء شبه الجزيرة العربية كنا جنوداً نجاهد من أجل البقاء وسط تهديدات جيوش التحالف أمامنا ولجان الإعدام خلفنا والسماء المكتظة بالطائرات فوقنا والصحراء الحارقة تحتنا أو نحن الذين تحتها في خنادق هي مدافن متحركة لنا ولدباباتنا ومدافعنا، علينا أن ننام فيها بأعين مفتوحة وأكثر من جندي خفر كي لا ينهار علينا الرمل ونحن نيام أما العقارب والأفاعي واليرابيع فهي أقل تهديداً من كل ذلك. قيل بأن دول التحالف أكثر من ثلاثين وجيوشها هنا هي خلاصة قوة العالم مجهزة بآخر وسائل التقنية الحديثة والأسلحة المتطورة، لذا قال لنا ضابط التوجيه السياسي: علينا ألا نخاف وسوف نحاربهم بقوة رجولتنا والسحر حيث سيتمكن الراعي منا من أن يرى طائرة الشبح بعينيه ويلوحها بعصاه. دون أن يفسر لنا كيف سيتم ذلك، وراحت إذاعة بغداد تقصف الأعداء بسيل من الشتائم التي يطلقها الشعراء الشعبيّون في قصائدهم، ووزعت علينا قيادة الفرقة أزواجاً من الحمام الزاجل والجِمال لكي تكون وسائط لنقل البريد والأوامر بين وحداتنا باعتبارها أفضل وسيلة تحتمل هذه الصحراء وأكثرها أماناً حيث يستحيل على أجهزة الأعداء الحديثة وأقمار تجسسهم الصناعية من كشف رسائلنا وشفراتنا، وكان نصيب سريتنا زوج حمام زاجل وناقة مع حوارها (ابنها) أسماهما معتمد البريد وعريف القلم مسعودة وسعيد، فيما أطلقا على زوج الحمام أسمي (أنا وأنت) الذكر أنا والأنثى أنت. وكل فرد في وحدتنا كان يتمنى لو أنه أحد زوجي الحمام أنا أو أنت كي يهرب بعيداً.. بعيداً، يلقي برسائل الحرب في موج الخليج ويطير إلى خارج الحدود.. بعيداً عن الجيوش المتقابلة في الصحراء.. بعيداً إلى آفاق بلا حدود.
طعامنا كتل الخبز الجاف والتمر، لذا أصابنا الإسهال فكان التمر يخرج من بطوننا دبساً أسود مخلوطاً بدم الأمعاء فيترك على رمل الصحراء خيوطاً تشبه علامات الاستفهام، لذا فكر البعض بأكل زوج الحمام عقوبة لهما على عودتهما بالرسائل المثقلة بالأوامر العسكرية. كان كل شيء بحساب، لتران من الماء وحفنة تمر وعشر سجائر لكل جندي، لذا كان المدخنون منا يحملون معهم الاحتياط من أكياس التبغ، يتسلون بلف سجائرهم أثناء الخفارات وعند الانبطاح طويلاً خلف تلال المراصد.. قيل فيما بعد بأن الاستخبارات العدوة قد التقطت لنا الكثير من الصور ونحن نخرج ألسنتنا لها فكانت حائرة من ذلك وخائفة، معتقدة بقوة معنوياتنا وأننا نسخر منها، فيما الحقيقة هي أننا كنا نبلل ونلصق أطراف أوراق سجائر اللف الرقيقة بأطراف ألسنتنا، كما قيل بأنهم قد حاروا وعجزوا بكل قوتهم الاستخبارية من تحليل جهاز كان يحمله جنودنا معهم ويبتعدون به ليلاً أو نهاراً ثم يغوصون في الرمال لفترة معه وبعدها يطلعون عائدين به إلى مواضعهم. الجهاز صغير له مقبض واحد وهوائي قصير ورقبة شبيهة بالجرة وأن صور الأقمار الصناعية والأشعة فوق البنفسجية المرسلة إليه كي تحلله لا تكشف شيئاً من تكوينه.. ولم يكن هذا الجهاز إلا إبريق من البلاستك نحمل فيه الماء حين نبتعد عن ملاجئنا للتغوط.
وذات ليلة قصف سقطت قذيفة على الحوار سعيد فنثرت أشلاءه. فرحنا بذلك لحظتها حيث سنشوي اللحم صباحاً عندما يخف القصف مثلما سيخف بريد رسائل الأوامر بفقد إحدى الوسائط، ولكننا حين خرجنا من خنادقنا مع الفجر وجدنا الناقة مسعودة جاثية أمام أوصال ولدها والدمع يجري من عينيها كأبناء آدم تماماً.. عندها نسينا جميعاً شهوتنا إلى اللحم المشوي ورحنا نجمع أوصال سعيد أمام أمه محاولين إعادة تشكيل هيئته قدر الإمكان ثم غادرنا إلى واجباتنا وبقيت هي على جلستها حتى اليوم الثاني فقررنا دفن بقايا سعيد، لذا أوقفني الضابط أمام وجهها كي لا ترى الدفن، فرحتُ أجفف عينيها بأكمام قميصي، أربت على رأسها وأداعب رقبتها ماسحاً بحنان، فكانت تحني هامتها ويزداد انهمار الدمع من عينيها على جزمتي، لحظتها فكرت بأمي لو أن القذيفة القادمة ستكون من نصيبي، لذا قرفصت أمام رأس مسعودة واحتضنته باكياً بصمت كي لا يراني بقية الجنود الذين انتهوا من دفن سعيد فقالوا دعها الآن.. وابتعدنا فرأيناها تزحف دون أن تنهض حتى وصلت إلى قبره وشرعت بتشمم الرمل واستنشاقه.. ساد الحزن علينا جميعاً لثلاثة أيام كانت فيها مسعودة ترفض كل ما نقدمه لها من طعام وماء، كما لم يجرؤ معتمد البريد على استخدامها واكتفى برسائل زوج الحمام. في اليوم الرابع اشتد القصف علينا من مدافع الأرض وبوارج البحر وطائرات السماء حيث بدأ هجوم التحالف مطراً من القذائف والنار فرحنا نلوذ ذعراً متفرقين وسط الأودية والخنادق والكثبان مبتعدين عن أسلحتنا من دبابات ومدافع وراجمات صواريخ لأنها كانت هدفاً أكيداً لأول هجوم التحالف. كنا نراها تتفجر حولنا وتحلق شظاياها في الفضاء وسط اللهب والدخان والرمل وعروق الشوك والصبار ورؤوس الجنود القريبين منها. مطر من القذائف، رعود قاصفة، دوي وانفجارات وهدير حديد. قصف. وكان آخر ما رأيت في مواضعنا مسعودة تزحف فوق مدفن سعيد وتغطيه ببطنها، تصك أسنانها، يشتد رُغائها وتهدر بالشقشقة. قصف، قصف، قصف فتفرقنا في كل الاتجاهات، كل منا يتوقع موته بعد لحظة، لذا كان يستغفر الله عما ارتكبه في الإجازات مردداً الشهادة بوحدانيته ومتذكراً على عجل صور الأهل والأحبة، تالياً ما يحفظه من آيات القرآن التي يعتقد بأنها ستحفظه دون أن يكف بحثه عن الخلاص، بعضنا انسحب إلى الخلف، بعضنا غاب على الجانبين.. تاه في الجهات، فيما تقدم البعض الآخر إلى الأمام ، وأنا منهم، حاملين بأيدينا مناديل بيضاء أو ورق أبيض لمن ليس لديه منديل، مثلي، حيث رفعت عالياً آخر رسالة من أمي.. وأسروني. ضربني جندي عربي ملتحي بأخمص بندقيته على صدري فسقطت وقيدني، فتقدمت إلي جندية شقراء سقتني الماء ثم رفعتني إلى الناقلة فنقلوني إلى معسكر رفحاء حيث بقيت لأعوام هناك ثم نقلوني بعدها بالطائرة إلى هنا.. إلى قريتي الكندية البيضاء. متخيلاً بأن زوج الحمام (أنا وأنت) قد نال حريته أيضاً ولجأ إلى أرض آمنة، لذا ربما يكون مع حشد هذا الحمام الذي أراه من نافذتي في ساحة القرية، أو ربما يكون الآن مع أسراب حمام ساحات روما أو حمام ساحة (بوابة الشمس) وسط مدريد أو يذرق على هامة تمثال الحرية في نيويورك.. ولكن أين هي الآن الناقة مسعودة؟.
----------------------------------------
*نص من كتاب (ليالي القصف السعيدة).

ليست هناك تعليقات: