الجمعة، 6 مارس 2009

قراءة / مصطفى محمد غريب

مصطفى محمد غريب


قراءة نقدية في كتاب محسن الرملي

" ليالي القصف السعيدة "

مصطفى محمد غريب

*"تفسير التاريخ وحوادثه كأنه غير مؤكد ومشكوك فيه هو قفز على الوعي البشري وعلى حقيقة التاريخ نفسه الذي يصنعه البشر".
*"الحرب أكبر زانية في التاريخ لا يوجد أكثر منها نذالة وفسقاً وأجراماً".
مصطفى محمد غريب


أولــويـات
"لقد حددت الطائرات من بعد ست دقائق موقع مدينة (بارمن) أحد طرق مدينة (فوبرتال) باستخدام قنابل ذات إضاءة حمراء من ارتفاع 1000 متر من الهدف، هبطت القنابل متفرقة، وأطلق كل واحد منها 60 شمعة إضاءة، هبطت كلها كثيفة على الأرض توهجت كل شمعة من هذه الشموع لمدة عشر دقائق، بعدها جاءت طائرات أخرى، وحددت مدينة بارمن باللون الأخضر، بعد ذلك جاءت خمس وخمسون طائرة من قاذفات الحمم النارية ".
لماذا بدأت من مقطع في كتاب (الحريق Der Brand ) فصل قصف مدينة فوبرتال للكاتب الألماني يورغ فريدريش Jorg Friedch لمعاينة عمل الكاتب العراقي محسن الرملي " ليالي القصف السعيدة"؟.
لا يمكن الإجابة المباشرة على هذا السؤال، لأن هدف الكاتبين من الولوج في مفردة القصف في الحرب( مباشرة وغير مباشرة) واحد، لكن لكل طريقته وسرده وتناوله لهذه الموضوعة.
ان تناول قضايا الحرب المتنوعة، التي تعتبر أكبر زانية في التاريخ، لا يوجد مثلها أكثر نذالة وفسقاً وإجراماً، غاية نبيلة وإنسانية هدفها إغناء وعي الأجيال القادمة لتحديد الموقف الرافض لقيامها وبالوقوف ضد مشعليها.
مفردة القصف بمعناها الشامل وبتفاصيلها القاموسية التي أشار لها الرملي تعني في كل لحظة، حياة الإنسان وتبدو في الكثير من الأحيان خارج نطاق خارطة الحرب المباشرة، وعندما يجري تأطير الفكرة لكي تكون حاضرة بوجود التاريخ تتجسد فيها الرؤيا كونها تستطيع أن تدلنا على المدافع والقنابل المختلفة التي تبدو كأشكال فنية جميلة في بعض الأحيان ولكن لا تعرف نتائجها العملية إلا باستعمال مفردة القصف. ان قصفاً آخر قد يخطط له وتضبط حساباته ونتائجه وفق نسب عالية من النجاح والوصول إلى الهدف، وأقصد بهذا القصف غير الحربي المباشر، ففي جوهر مفردة القصف يَكمن التحفز لأمرٍ مبيتٍ مسبقاً.. في انبثاق الحرب المباشرة بالأسلحة أو القصف في مجالات أخرى (الحرب الكلامية وغيرها)، لكنها تعني في جميع الحالات الحرب.
وما جعلني ألتفت أكثر للكتابة حول (ليالي القصف السعيدة) فضول الترقب الكامن في ذاتي الكاره لهذا الغول الوحشي التي ابتلت به البشرية.. وقد استحضرني وأنا أقرأ في هذه المجموعة، الكاتب الألماني المعروف هايندش بول الحائز على جائزة نوبل للآداب.. كان هايندش جندياً في الجيش الألماني أثناء الحرب العالمية الثانية، كتب فيها أروع وأدق الرسائل التي ترجمها للعربية علي أحمد محمود، هذه الرسائل الموجهة إلى والدته تحتوي على وصف دقيق لمجريات حياته أثناء الحرب، فقد تناول قضايا صغيرة ليست على البال لكنها في الوقت نفسه تدفع أحاسيسك للإثارة والتفاعل معها، وصف الطبيعة، الناس، الجنود، رغباته ورغبات الآخرين، أفكاره وأفكارهم.. وهو يتطرق للقصف لكن دون أن يذكرها كمفردة، قصف متعدد الأشكال والجوانب والغايات، فشرائه طن من التفاح بثمانية ماركات قصف، والاختباء في ملجأ للهروب من القصف، والروسي الذي كان يقيم في فرنسا منذ الحرب العالمية الأولى والذي أهداه تبغاً هو قصف، وما جاء في إحدى رسائله لوالدته هو قصف: "تصوري أن روسياً في فرنسا يهديني تبغاً عام 1942، هذا بالفعل أشبه بمعجزة، بيد أنه الحقيقة! لذا سأقدم له غداً كل حصتي من الخبز، سأفعل ذلك، رغم أنني أتضور جوعاً، لتذكري فقط أن روسياً أهداني في 1942 تبغاً ".
قصف لكنه يحمل نفساً إنسانياً صافياً، قصف لوعي والدته ومعتقدات العنصر الأعلى الذي رسخ مفهوم الأمة الألمانية العظمى، صور هدية الروسي البسيطة العظيمة في زمنها قصفاً لأيديولوجية نازية، ثم معرياً تشويه الوعي أكثرية الشعب الألماني الذي قام به الحزب النازي وأيديولوجيته العنصرية الفاشية.
المساومة مع الراعي الفرنسي حول شراء أحد الخرفان من قطيعه "انتقينا خروفاً سميناً ـ كان معنا جزاراً ".
أكثر الكلمات التي أهداها إلى أمه هي قصف مختلف الجوانب والأهداف، لكل قصف حادثة ومدلول "منذ غادرت مخبأ قاذفات اللهب" ثم أثناء جرحه في أحد المعارك.
قد أكتفي بوصف هايندش بول حول الإذاعة والمذيع والذي مر عليها الرملي في إحدى قصصه "هراء المذيعين المعسول، ما هذه الافتراءات المرئية وعصابة الأوغاد! أصبح من الصعب بمكان، بالنظر إلى الأشياء كهذه، الاعتقاد بألمانيا".


المجموعة
محسن الرملي كاتب يتميز بالمثابرة والتقصي من أجل توظيف قدرته المعرفية الثقافية للنص الإبداعي المتنور، فهو المشارك والناقد لجزء من التاريخ، تاريخ قصفي سبقه وحاضر يعيشه على ما أعتقد لحد الآن، وأنا لا أعني التاريخ ارتباطاً بتاريخ كتابته القصة أو الرواية وغيرها، الذي أعنيه الجزء التراجيدي من حياة أخيه الروائي المرحوم حسن مطلك الذي دفع حياته ثمناً لمحاولته قصف الوحش الذي قصف الجميع، لكن جوبِه أخيه بقصف مضاد أدى به إلى فقدان حياته.
يعيش محسن الرملي تلك المأساة، في كل عمل أو نص ثقافي، هاجسه ذلك الجزء من التاريخ الذي يتذكره مرة بمحاسنه وأخرى بجراحه المستمرة، ذلك الجزء الممطوط غير قابل للقطع أو التوقف عن المط. إلى أين سيصل محسن الرملي؟.. هذه مسألة إنسانية أخرى لا يستطيع المرء التكهن بها أو تحديد فترتها؟.. متى وأين؟.. لا يمكن الإجابة.

*العنوان الأول "ليلة كتابة ليالي القصف".. مباشرة يدخلنا الرملي بهدوء إلى صلب موضوعه (فكرته) الناشئة من مفردة القصف، بمعناها المتعدد، الحرب، اللغة، السياسة، الثقافة، التشاؤم، القليل من التفاؤل، السخرية، والجدية.
هذا المدخل من خلال (ليلة كتابة ليالي القصف) ـ هو العنوان الأول ـ حيث يقول: " كنت أرى كلّ شيء بمثابة قصف، الإعلانات وبرامج المسابقات وفضائح الممثلين وقُبل العشاق والهواء المتسلل من النافذة. جسدي.."ص11. " ثم يستمر مؤكداً " هكذا واصلت اجتراري لأخبار القصف، قراءتي وذكرياتي عنه، التاريخ والأرقام والموتى والأغاني والتبريرات وفراق الأحبة ودم ومدافن وحرائق ومنافي وحديد وكلمات ونار وتكسير العظام ونظرات شرهة وأخرى دامعة.. كل شيء هو قصف، أو تبادل قصف تبادل النظرات، وتبادل الكلمات/ الشتائم، الصراخ، النصائح، الصفع، الأبوة، الأخوة، المحبة، الحقد، الاغتصاب أو ممارسة الحب، وجهات النظر…".. الخ ص11 .. هذا الولوج السريع لا يكلفه الكثير من الشرح الطويل، يرفع عن كاهله هموم الإطالة والسرد الممل، يختصر كلّ الموضوعة لكي يُفهم القارئ بما يريده: "انتهبت إلى أنني لم أتناول عشائي حتى الآن، لكنني/ كأنني/ كنتُ سعيداً بمواجهتي لمفردة القصف"ص13. هو محق فيما يهدف إليه، وضع الفخ الخفي، " انتبهت" لنفسرها انتبهوا إلى ما سيأتي: " أكتب وأكتب وسأكتب.. حتى يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر" ص13.

** العنوان الثاني " أول القصف" يختار الكاتب بعفوية، ولغة حزينة، التصورات الإنسانية وعلاقتها مع محيطها وغربتها عنه، يفسر العلاقة بالنطفة للوجود، قصف تلعب المصادفة في البداية كأنها تسلسل للخلق والنهاية، اختار الرحم المظلم، السكن الأول للإنسان، أو السجن الأول الذي ترتضيه الأم لإبنها، لا يمكن لأم طبيعية أن ترضى بسجن وليدها في مكان مظلم غير مرئي، إلا سجن الرحم، وعندما يفيق وتتلبسه الحركة يجاهد في القتال ليقصف هذا السجن من الداخل، وعندما يتنفس أول مرة يجد نفسه مطروداً من السجن الذي لا يفقه أسباب تواجده فيه، يقصفونه بدون إرادته، ثم يجد نفسه في سجن آخر أكبر ممتلئ هذه المرة بالضياء والظلام على حد سواء، من العتمة يبدأ النزوح إلى الضياء والعتمة، غربة جديدة لا يعرف أسبابها لكنه يقبل بها راضياً: " لكنك تدرك بأنها كانت أول وطن تطرد منه لتعيش المنفى الأول الذي يسمونه الوطن الأول"ص16.
الوطن الذي استقبلك بالشدّ والعرق والصراخ من الألم والصلوات.. وبالصفع أيضاً، أول صفعة على قفاك، بداية الفلقة والمطاردة.. وعليك أن تحتج بصوت عالي وكيف ما تريد: " استقبلوك بالقصف صفعاً على مؤخرتك وأنت تصرخ" ص16 .
ان محسن الرملي عندما يتابع النشوء الأول للجنين خلال العملية الجنسية، ثم مشهد الولادة يقرب من الأذهان قيمة الإنسان الفرد، يُذكّرُ الرحلة ليست بالسهلة، الربط بين تجربته ومشاهداته المرّة والحلوة.. في الحلوة إظهار العزلة مع الذات، في المرّة تعكير الذات بتعكير مزاجه في النظرة إلى التحولات المفاجئة، التحول لقضية غير محسومة ذاتياً تشكل قمة المأساة، قد يذهب إلى المبالغة في إخفاء هذه الفجيعة، لكنها تظهر في العديد من أعماله.. ضربكَ بأي طريقة، إعدامك.. البعض يضحك جذلاً وهو يراك على حافة الهاوية، وأنت في مخلب النسر معلقاً وفي قمة الحزن والألم تعد ثوانيك..
" في البدء كان الحزن.. ياه.. يالها من مكايدة!.. يا ابن قابيل"ص16. لماذا ابن قابيل القاتل في الرواية؟ أليس الأب آدم.. فهل يفسر هذه السخونة من الحزن؟ التعطل في الحركة في لحظة قتل آخ أخاه! بينما هو في الطرف الثاني من المعادلة. لو أعيد التاريخ لكان لديه الاستعداد ان يضحي بنفسه لحسن مطلك بدلاً من أن يقتله! كي ينقذه ويقصفُ قصفهِ لكي ينقذه من قصفِ خفافيش الليل! أليس هذا تصور لهذه المعاناة؟.
ان العلاقات الإنسانية التي شرخت بفعل الفكر الاستعلائي كانت متسلسلة عبر الحياة اليومية على ضفاف العفوية وصولاً للسذاجة مع الطبيعة المحيطة، لكن الاضطهاد المنظم للفكرِ، العنف المبرمج تقمص ظاهرة العقاب كرد فعل ضد التنوير.
طيبة إنسانية بعلاقات فطرية من الأم والأب، الصبية، مدير المدرسة.. المعلم، إلا أن هذا العقاب يتحول بفعل القانون الوضعي لخدمة نهج العنف، عقاب الدولة: " الحكومة بالسجن" ص18.
ان السجن الجديد ليس باختيارك كما كان سجنك الأول (الرحم) والسجن الثاني خارج عن إرادتك (الحياة على الأرض).. الفرق بينهما فرق طبيعي وفطري، الأول والثاني التعامل مع الطبيعة وتعامل الطبيعة معك، أما سجن الحكومة هو العنف القاسي، الاضطهاد التعسفي، بسبب الفكر ليس إلا!.
من أجل أن يستوعب أول ما يستوعب: "ما أنتَ في هذا العالم إلا قاصف أو مقصوف، وغالباً ما تكون مقصوفاً" ص18. حاكمٌ أو محكوم، لكن الحكام قلة، والمحكومين هم الأكثر وعليهم الخضوع لهذا القانون، قانون الأعلى في السلم الاجتماعي، فهم الغالب قاصفين وفي اسفل السلم الأكثرية مقصوفين.
التاريخ خير منهل لهذه الفكرة، تصفح بصفحات متنوعة، ملونة، أراد الرملي وإن لم يرد، شاء أم لم يشأ، أظهرها بملامسة حسية، جعلها محسوسة عند الآخرين.

** العنوان الثالث ( تاريخ القصف ــ المجلد الأول ــ طفولة الدنيا).. قدم الرملي له مقطع أو قولاً للروائي حسن مطلك (أخيه) اتصال شبه متسمر، الإنسان الضحية لقصف العنف " الإرهاب" ، قد يجوز أراد قصف الإرهاب بطريقته لكن " تسري الرياح بما لا تشتهي السفنُ" انعكست هذه العلاقة على محسن الرملي، فأخته مدخل الممر الذي ولج إلى داخل التفسيرات والاستفسارات عن أسباب استعمال القصف، فردي أو جماعي. ينقلك إلى العقل كبداية.. أليس العقل هو الأساس؟.. والأعضاء الباقية تابعة له بهذا الشكل أو ذاك، يريك محدودية العقل متزامناً مع شمولية المعرفة التي حصل عليها، يدخل عالم الأساطير للتحري عن ( القتل، القصف) اللذان رافقا مسيرة الإنسان، حتى في خلق الأساطير ونقلها إلى الواقع الذي يعيشه، لحظة أو لحظات، كثير من الوقت أو قليلة أثناء حياته، يتحفك بالسماء والأرض وآلهة متعددة تختلف من بلد إلى آخر، يسفرك إلى التاريخ الديني، مستنداً إلى الكتب السماوية.. القرآن الكريم بالذات.
منذ البداية يطرد " يقصف " الرب آدم من جنته، محاولة لمنح النفس فرصة لسرد الأفكار والمعتقدات، لكن تحت حدود شبكية لا يمكن تجاوزها، ظلّ الرملي أسيرها، يقترب من حدودها ويبتعد عنها.. أخته كاظمية " لعلها رمز" لم تتمكن نقله بتساؤلها:" تساءلت كاظمية: والرب؟"ص22. إلى الكشف عن ما يدور في ذهنه، حاول جهد الإمكان سرد الحوادث والأفعال في التاريخ عبر العديد من الأسماء الفردية والجماعية، استسقى أسماء وحوادث وحروب تاريخية ما بين الأسطورة والواقع، ليصل إلى قناعة: ان التصادم المستمر هو قصف دائم.
" قلتُ لأختي:ـ هل لاحظتِ؟ .. كل القرى والمدن قاصفة أو مقصوفة.. أما التي لا هذه ولا تلك فلا ذكر لها في التاريخ ولا أهمية، ثم نقلت سبابتي إلى آسيا بنيّة تعداد المذابح في إيران وأفغانستان والهند وباكستان وجنون جنكيز خان الذي وصل قصفه بكين، معارك المغول والروس والعثمانيين والمجازر في البلقان.."ص37.
هل رفعت كاظمية يدها مطالبة بالتوقف لتطلب بعد ذلك: " أريد الماء.. ماء.. بارد".ص37.
أم هذا الإلحاح نابع من داخل محسن الرملي؟ يريد به أن يخمد حريقه، أن يترك الهذيان بسبب هذه التناقضات، أي ماء يقصده؟.. ولماذا سقطت مغشياً عليها؟ لماذا داخت..
إسقاط الفكرة على ما يبدو على أخته طريقة لاستحواذ اهتمام القارئ، وإبعاده عن شكوى ذاتية.. لكن مأخذنا على الرملي أنه نسى العراق، كدولة في آسيا، نسى كم العراق بحكامه قصف وقف على مدى أربعة عقود عجاف.


** العنوان الرابع: ( تاريخ القصف ـ المجلد الثاني ـ مراهقة الدنيا ) كرر الرملي الحالة باستعارة قولاً له:" ما المراهقة إلا مطاردة لأسماء أشكال الغيوم على تضاريس الوقت"ص39.
ثم دلف الرملي هذه المرة إلى عالمٍ مسكون بالقلق والتوجس ، لكنه مع ذلك يمنح نوعاً من الثبات النسبي فيما يذهب إليه أو بالأحرى ما توصل إليه.. ليحط بين أيدينا كتاباً ( تاريخ القصف) الذي دوّنه (سفن لندكفيست) قصف منذ 762 إلى سنة 1999، لا يمل الرملي من متابعة الفكرة، بعد التسلسل في الأساطير وتاريخ الأديان توصل إلى القصف الحديث فسماه " بالاستعمار الأوروبي في القارة الأفريقية حيث قاذفات الانقضاض وصيحات ( أبيدو الوحوش)"ص39. توغل يفتش عن الوعي فينا ليرينا قصف هتلر وموسليني وفرانكو، وببطء مر على الطائرة الأمريكية التي قصفت أول " قنبلة نووية في العالم على مدينة هيروشيما اليابانية "فهمس طيارها حين رأى فوران الجحيم تحتهُ.. أواه.. يا إلهي.. ما هذا الذي فعلناه!" ص39 – 40، أليس هذا الفرح الرأسمالي الاستعماري الذي أطلق على تلك الطائرة فسموّها( فرح)، قصف عشرات الآلاف دفعة واحدة، لتمتلئ قلوبهم بالفرح.
يبدأ التاريخ الجديد بالقصف الفرح، عصرية حديثة، تختلف عما ذكر في التاريخ من حروب وغزوات وصراعات واستعباد وقتل، هنا الشكل الأمثل لجريمة القصف بمعناها الحضاري للرأسمال وعنفه وأخلاقياته المتدنية، القصف التكنيكي الحديث، تجلى بشكل حقيقي واختلافه في الشكل والجوهر، جمع مناطق واسعة ليرميها " بحجارة من سجيل ".
وعلى الرغم من التضليل بالمحافظة على حياة المدنيين جهد الإمكان يسقط الرملي هذه الإدعاء بمشاهدات السويدي (سفن لندكفيست) ووقوفه على حقيقة مجلس الأمن وقراره " الذي ينص على التدخل في الحرب الكورية ص42.
ان محسن الرملي عندما يستشهد بسفن السويدي يخترق وجدان الآخرين بصورة التاريخ وحلزونيته معتمداً على الوعي بالرغم من التراجعات، لكنه مع شديد الأسف يقع في خطأ سفن القاتل عندما يفصل حوادث التاريخ عن بعضها، التاريخ البشري ليس متاهات مثلما يصوّره البعض، لأن التاريخ الحقيقي يصنعه البشر، مجموعات وللفرد دور مهم فيه.
على سبيل المثال لو نضع معادلة " التاريخ وحده" بدون بشر لا يبقى شيء اسمه التاريخ، لأن البشر الذين يصنعون التاريخ وتكويناته قواعده وأسسه، حوادثه وإسقاطاته، التطورات الناتجة عن الفعل البشري، ثم تأرشفه. ان الأسلوب الذي يحاول تفسير التاريخ وحوادثه كأنه غير مؤكد ومشكوك فيه هو قفز على الوعي البشري وعلى حقيقة التاريخ نفسه وتمويه على المجتمع الطبقي وصراع الطبقات فيه. ولهذا احتاج الفن القصصي "السيرة" لكل شيء سيرة معينة، مفهوم البطولة، المدن، الشخصيات، العلاقة، الحوار، الذاكرة، الرؤيا، الطبيعة، الزمان والمكان، الإعلام، ثم التاريخ، حتى لو تحايل الكاتب عليه وعلى الوعي الاجتماعي والفردي ليصور عمله خارج المكان والزمان والتاريخ، لكنه مرتبط بهما بشكل ما مهما حاول التمويه على ذلك، هذه المجموعة لها موقع وسيرة طويلة أو قصيرة في أي عمل ثقافي أدبي ( قصصي، روائي، شعر وغيرهم ).
إلا أن الرملي يجتهد في اللغة للإعلان عن معاناته ومعاناة الآخرين، يريد أن يسود الهدوء على هذا الاعتقاد، ليدلنا على تخوم تاريخ الحروب بما إنها ثقيلة تبتغي تجفيف الذاكرة، كأنها منفصلة عن إرادتهم، وبشفافية يحاول أن يفسر سفينة البيض التي تشع النور كما هي لوحة رسمها الفنان ( خوليو بيرنة عام 1886) على أوروبا، بينما سفينتهم في أفريقيا " يقصف الموت على ( المجرمين) السود الذين أطلقوا عواءً مرعوباً وهم يحاولون النجاة من النار القاتلة"ص43.. العنف الساحق الدموي الذي استعملته أوروبا حضارياً، كانت هي بمنجى عن الاضطهاد والتعسف والقتل خلال حقبة استعمار البلدان الأخرى، هي المعادلة في انطلاق سفينة البيض بالمقارنة مع سفينة السود! أليس النبرة المتوجعة احتجاج على ما جرى ويجري؟ هل التاريخ وحوادثه منفصلا عن بعضه يصنع نفسه بنفسه كمتاهات ؟.. إنها الأدوار التاريخية التي مرت بها أوروبا، كانت تجنح للسلم والجمال والإبداع والألعاب النارية الملونة، تنير نهر السين في باريس، والراين، والدانوب وغيرها من أنهار أوروبا! على مُثِلٍ عاهرة في مقدمتها تجارة الرقيق التي سادت وراكمت الرأسمال الغول.. هل خرج الجميع من قصف الحرب العالمية الأولى والثانية سالمين بدون عاهات نفسية قبل العاهات الجسدية؟.
الرملي يتجاوز المشهد ليحتفل بمشهد آخر حيث التشابه، المهم الفكرة، يجب أن تبقى ناضجة في الذهن، لا عرضة للتدمير، كنتائج القصف المادي في الحرب، الاضطهاد، العنف، الخسائر البشرية والمادية، ثم النتائج اللاحقة، الجوع، الأمراض، الفساد.
فعلى الرغم من الصور الجمالية التي يناقش فيها سفن السويدي الصحفية (صوفيا هاريسون) نائبة رئيس تحرير مجلة (غرانتا) ويحاول بجدية لاستخلاص آرائه بأن التاريخ لا يعيد نفسه محاولاً التشبيه بميكانيكية بين قصف الطائرات الفرنسية لأحد المواقع في المغرب، وبعد عام من قبل الطائرات الأسبانية أيضاً، لكنه يتناسى أن التاريخ أعاد الحرب نفسها لكن بشكل آخر، والطائرات الحربية على الرغم من اختلاف أشكالها وحمولاتها من القنابل وطرق صناعتها، فهي طائرات حربية لها المهمة نفسها القصف، القتل، التدمير، القنابل التي استعملت إن كانت فرنسية الصنع أو ألمانية فلها الهدف نفسه، السيطرة والهيمنة والقتل والخراب وإلحاق الهزيمة بالطرف الآخر.. أليس إعادة المسرحية كهدف بنص آخر ولكن بشكل جديد؟..هل الطائرات والقنابل تُفرق بين الأسود والأسمر والأبيض والأصفر، وهنا يقع سفن السويدي على ما أعتقد بتناقض في أقواله حينما يمر على خراب المدن الألمانية وغيرها، أليس الحرب العالمية الأولى أعادها التاريخ بالحرب العالمية الثانية بطريقة جديدة مثلما يشير (هاينريش بول) في رسائله من الجبهة: " إنها الحرب، الحرب الثانية في وطننا، إنّ ما رأيناه من تدمير وتخريب خلال ساعات النهار القليلة التي سرنا فيها لا يصدق بالفعل".. أليس هذه الصورة موجودة في جميع الحروب التي حدثت؟.
ان أسئلة الرملي من خلال والده عن السيطرة والسبي والاحتلال تُقَرّبنا لجوهر الحرب، أهدافها، من هم أصحاب المصلحة في قيامها، من خلال الأسئلة نتوصل إلى الإعادة التي تتكرر مادامت الأسباب موجودة، لهذا يجب التخلص من هذه الأسباب التي تؤدي إلى القصف التعسفي بكل أشكاله.
العراق بالنتيجة يبرز بعد هذه الحوارات المتعددة، الداخلية والخارجية، التاريخ، الكتب، المقابلة الصحفية، المشاهدات المرئية، الأخبار، أراد منها الولوج معه إلى موضوعته (العراق)، نادراً ما يجد المرء كاتباً حاول واستطاع خداع القراء بما يريد الكاتب، عمل إبداعي ذو تكنيك غير معقد لا ينتمي إلى العمل القصصي أو الروائي فحسب، وإنما المشاهدة والتحولات المتقطعة التي تمر على الإنسان ويتعايشها خلال حقب حياته، لا ننتبه إليها إلا بعد فترة عندما تكون هذه التحولات قد أخذت منحى في تراكمها وفي لحظة معينة تفاجئنا بدون مقدمات، قد يمر على الذهن أن الكاتب كان قد اكتشف هذا الشيء من خلال أعماله أو عمله المعين:"ومع ذلك ففي العراق كان الأمر مختلفاً تماماً فقد أطلق البريطانيون شعار (سيطرة بلا احتلال)" ص48.
هل أعاد التاريخ نفسه عندما أطلق الأمريكيون وحلفائهم البريطانيون قبل وأثناء 19 / 3 / 2003 شعار تحرير العراق وليس الاحتلال؟! القصف إذن هو القصف! ان كان في براغ أو لندن أو برلين أو هوشي منة أو القاهرة أو أفريقيا أو أمريكا اللاتينية أو بغداد.. القصف يعني هنا الحرب، أو ما يساعد على الحرب ويقربها إلى الأذهان، في الحرب لا توجد مبادئ وقيم أخلاقية وأعراف ذات حدود يحدها القانون العرفي أو الوضعي، هي فنّ السيطرة والإخضاع للنهب والاستغلال، الحرب موجودة في الاقتصاد، جوهرها الاقتصاد، هذا ما جاء على لسان تشرشل رئيس وزراء بريطانيا عن الضحايا في بغداد:" إطلاق الرصاص على النساء والأطفال الذين يلوذون بمياه نهر أو بحيرة كملجأ لهم يعتبر فضيحة"ص50.. لم يخجل تشرشل، ولم يعتبرها فضيحة عندما أمر بإطلاق الرصاص وإعلان الحرب على بلد يبعد عن بلاده عشرات الآلاف من الكيلومترات، كان يهمه النتائج، لا بمن يقتل وأي بيوت ومساكن ومزارع وبساتين ستدمر وتخرب.
ان الرملي يعود ليسأل (سفن السويدي): " فهل على مدينة بأكملها أن تدفع ثمن جرائم رجل واحد، والثورة ليست جريمة يا سفن السويدي وبأي حق.."ص51.
يخرج الرملي من قمقم سفن بأن التأريخ لا يعيد نفسه، لأنه لا يتصور كيف عوقب الناس، مدن، بلدان عديدة على الرغم من براءتهم، وأمامه متسع من الوقت ليرى العقاب (القصف) مستمر مثقل بالهموم، ينساب في مضمونه على الرغم من الثرثرة عن الانقطاع بين الأشياء. الرملي في متابعته، تنقلاته، تقاطعاته ثم انقضاضه يحاول التركيز على قيمة الإنسان في الموضوعة، يسمو بمفردات اللغة ليحولها إلى موسيقى جنائزية في بعض الحالات، يطرح ظاهرة تكررت، فليس الطائرات الإيطالية وهي ترش السموم عبر غازات على البشر والطبيعة نزهة للإستطلاع، وليس عندما أعاد التاريخ نفسه في رش حلبجة الكردية ومناطق أخرى بالسموم الكيمياوية عبارة عن مشهد سينمائي، أو مسرحي ينتهي بإسدال الستارة. تبرز هنا في هذه اللحظة تلك الكليمات الاحتجاجية الصارخة، ما دام القهر والاستغلال يأخذان الصفة القانونية الرسمية والشرعية الحكومية التي وضعها بعض البشر لكثرة من البشر، تستخدم حسب مصالحهم:" أنهيت قراءة كتاب (تاريخ القصف) لسفن، ولم أجد تفاصيل عن قصف حكومتنا لنا"ص55.." آه.. حلبجة أيها الجرح الذي انفتح في الربيع 16 / آذار / 1988 ولن يندمل.." ص55.
نعم يربط الرملي حوادث التاريخ بدراية أو بدونها، يربطها كنتائج لأهداف مبتغاة بالرغم من الزمان والمكان، من قبل طغمة أو طاغية، إمبراطور، خليفة، ملكاً، رئيساً للجمهورية بـ 100% من الأصوات.
فما مر من حروب على العراق كانت وفق رغبة الحكام، وما مر من حروب منذ تشكيل الدولة العراقية الحديثة حتى 1963 رغبة الحكام، وما مر من حروب وقصف منذ مجيء حكم البعث العراقي وقيادة صدام حسين هي رغبة الفكر الشمولي المتعطش للاستعباد والدماء.. التاريخ يعيد الرغبة، بحجج مختلفة، ويعيد الشخصيات بأشكال غير متشابهة.

** العنوان الخامس .. (تاريخ القصف ـ المجلد الثالث ـ شيخوخة الدنيا) يتصدر الموضوع قول حسبما نقله الرملي لأخته كاظمية مطلك:" شابتْ أركاني.. وما ضيمي إلا الساكتْ" ص59، قيمة الضيم هو السكوت ليس غيره، لأنه العرفان بجميل القصف والعقاب والاضطهاد. السكوت المطلق هو جوهر الموت الأبدي، لأن الموت هو المطلق بالنسبة للحياة، التنفس، التفكير، القلب والأعضاء، يختار المرء السكوت أحياناً لأسباب شخصية أو أمنية، لكنه ليس المطلق، في حالته النسبية نسبية الوقت المعد سلفاً، أو ما يقال ( التقية أو الباطنية ).. ينقلب السكوت إلى نوع من التمويه، قد لا يرضى البعض به " الساكت عن الحق شيطان أخرس " هو تدمير للتقية والباطنية لأنهما يبدوان علة العلل، من يرى الحق ويسكت! لماذا سحبنا ولم يتركنا نحرك أجنحتنا في رومانسية خالية من هذا القصف المثل؟.. مثاقيل من الكآبة في قمة رونقها عند الصحوة، القصف له تاريخ أصبح بعداً لمعركة كلامية، أشمل وأوسع وأسهل.
" هل سيواصلون تطوير أسلحة القصف لتصبح أكثر دقة، وأشمل تدميراً، فبعد الفأس والسكين والخنجر والهراوة والرمح والقوس والنشاب والمسدس والبندقية والراجمة.. قنابل ثقيلة وأخرى مشعة وأخرى نابالم حارقة وأخرى مزدوجة وأخرى عنقودية، فراغية، ذكية، نووية، هيدروجينية، كيمياوية/ جرثومية وأخرى.. لمن ؟ لماذا ؟"ص60.
تسلسل للوصول إلى اختراعات أفظع وأوسع تدميراً للإنسان أولاً وآخراً.. اختراعات كوسيلة للتدمير، صور لنتائج سابقة وقادمة لا محال لهذه الأسلحة: "حرب نظيفة بلا جثث على الشاشة أثناء متابعاتنا لها"ص60.
انه اندثار القيم الإنسانية بواسطة ( الربح ) قد لا تظهر الفكرة مباشرة عند الرملي بعدما مسته (الباطنية) قليلاً، ربما بدون معرفة تتكون لديه أفكاراً هدامة!! التي تقول مصيبة الإنسان هو الاستغلال الرأسمالي، عذاب البشرية المزمن، الجميع لا يملكون إلا القليل القليل، والقلة القليلة تمتلك الأكثر، هذه الأفكار أمتدت عبر التاريخ، تكررت، ثورات العبيد، الزنج، الصعاليك، الثورة الفرنسية، ثورات أخرى متنوعة، كومونة باريس، ثورة أكتوبر في روسيا، ثورات في أسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، تتكرر تنجح وتفشل في التطبيق أو في بدايتها، لتعود بشكل آخر، وتستمر السلسلة، ضد القهر والاستغلال وعدم العدالة، لكن كيف؟.. وعن أي طريق؟ ذلك خاضع للحياة وللأجيال القادمة.
هل فكرة الإنسان (عزيز) هي حل لكل الإشكالات؟.. إذا كان ذلك ممكناً فهو جيد، لكن عزيز خائف كما هو الرملي خائف: " أنا خائف من الغد.. أنا خائف من الخوف"ص62.
لنهمل مقتنا للخوف هذا، جل ما نتمناه أن يفسر لنا خوفه على ولده الصغير من الغرب وتقاليده، قد لا أخطئ عندما أقول الخوف من الحرية الجنسية، إنها مشكلة أكثرية القادمين من الشرق وبخاصة المسلمين، فهل الشرق الباطني أطهر وأعف؟ والمباغي العلنية والسرية، والعلاقات الخفية، والخيانات الزوجية، لكن على ما يبدو البعض كالنعامة عندما تهب الريح يضع رأسه في الرمل رافعاً عجزه العاري للريح.
لنجعل عزيز يقوم بالحراسة، نلبسه زياً عسكرياً ونقلده مسدساً وخوذة عسكرية.. وماذا بعد؟ .. لنتفق مع عزيز! لن نسكت وهذا أمر حسن، وعندما نبدأ بفصل التاريخ الذي:" لم يكن في خدمة الإنسان" ص62. ماذا ستكون النتيجة؟ أنا مؤمن سوف نصل إلى المجتمع الطبقي الذي تتصارع فيه الطبقات مهما زين له مُنظّروا وأيديولوجي الرأسمالية، الأكثرية تريد تطبيق مفهوم الإنسانية للصالح العام، والأقلية تريد تطبيق مفهوم الإنسانية لصالح الربح الذاتي، في هذه المرحلة التاريخية من التطور تظهر الأحزاب السياسية ليس برغبة ( عزيز أو سفن السويدي، أو كاظمية أو مصطفى أو الرملي).. فأي إنسانية عندما يطلب أن لا " تتحول إلى أحزاب وتجمعات"ص65.. ترك الأغلبية المسحوقة تحت قصف الأقلية المتحزبة أساساً مع نفسها في أحزاب علنية أو سرية كتجمعات مهمتها الحفاظ على مصالحهم والتضامن فيما بينهم، وتمتلك أدوات القصف لكي تستمر في استعباد الأكثرية لأنه "صاحب المال والعامل" ص67. ليسوا شركاء في رأس المال ولا في المشروع المنتج، الاستغلال هو قانون الطلاق المؤبد بين المالك والمستخدم.. أية هراء وثرثرة عن المجتمعات الخالية من التناحرات الطبقية والاجتماعية تحت ظل الاستغلال؟.
الرملي يحملنا على جناحين رقيقين إلى مفهوم بسيط لكنه عميق، فقد أدرك الاستطراق بهذه الطريقة المتناقضة لموجودات الظاهرة وكأنها متفرقة وفي النهاية تتكون وحدتها، وحدة وتضاد، تضاد ووحدة "على الناس أن تعمل لتؤمن حاجياتها، ولكن عن طريق العمل، لا عن طريق استغلال الآخرين"ص67.
إذا لم يكن عن طريق الاستغلال فهو يعني ضد القيمة الزائدة ومشتقاتها، اكتشاف كارل ماركس للقيمة الزائدة كمثل الباحث عن الذهب، الذهب موجود فقط يحتاج الإنسان لاكتشافه!
بعد هذا العناء في الوصف للتاريخ والتناقضات ووحدتها تبرد عن الرملي السوائل والنطق، القهوة، البيضة، لكن في الحقيقة أفعمنا بتصوراته اللامتناهية بالرغم من بعض العتمة لكن المهم هو الهدف.

** العنوان السادس.. (القصف اللغوي) يتحول الرملي إلى قصف آخر "ما من حركة، أية حركة في هذا الكون، إلا شكل من أشكال القصف"ص69. القصف اللغوي لا يختلف عن القصف في الحروب، هو جزء لا يتجزأ منها، يتناول في هذا الفصل نبذاً من الأقوال والأفعال ليوظفها في عملية بحثه، لغة الشعر، وسائل الإعلام، رسائل (الايميل) الطبيعة، أحاديث مختلفة "هذا.. ونعم.. ان الكلام قصف أيضاً"ص80. وفي النهاية يحذر "فانتبه يا رملي لما تقصف به الناس من قذائف كلامك"ص81.

** العنوان السابع ..(ليالي القصف السعيدة ــ القصص )
1 – القصف في غرفة أمي، 2 – ليلة قصف ضاحكة، 3 - القصف ودار العدالة المائلة، 4 - القصف والمراحيض 5 – حياة محكومة بالقصف 6 – أنا وأنت والناقة مسعودة في عاصفة الصحراء.
القصص الست تصبُ في المجرى نفسه، تعلل القصف بطرق مختلفة، علاقة الأب الميت الحي، الأم، الأطفال، الزوجة، الخوف من القصف الكيمياوي .. الحرب، ثم انتفاض إنساني " هيا أخرجوا.. ذهب الخوف.. ذهب الخوف، فسألتها الجارة من ثقب البلاستك: هل انتهت الحرب؟ وأجابت أمي: لا.. ولكن أنتِ إنسانة ولست نعجة"ص90.
في ( ليلة قصف ضاحكة): لم يفارق الخوف أبطاله، عفوية حياتهم الخالية من تعقيدات المدن الكبيرة، الضجة في المذياع، وصورة الحمار الذي أسكروه وراح ينطح الجدار .. " نهضنا إليه وأمسكناه بقوة حتى غطسنا منخريه في الخمر، فكرع وانتفض، واهتاج ثم سكن"ص95... التجاوز على حمير القرية " فحملنا المذياع والدلو نطوف على حمير القرية واحداً واحداً نسقيه عنوة ثم نفك حبله ونطلقه، حتى اطلقناها كلها سكرانة تركض:طُربك.. طُربك.. طُربك، تنطح الجدران ط اااخ، والكلاب تنبح خلفها: طُربك.. عو عو عو.."ص96.
القصة الثالثة ( القصف ودار العدالة المائلة ) تتناول الموضوع بطريقة أخرى، استعمل الرملي شخوص أكثر خيالاً ، سحر العكازة التي اهدتها الغجرية، انتظار أم سلمان لأوراق ابنها، دار العدالة المائلة ( المحكمة) " فهل استقامت دار العدالة حقاً.. أين هي.. أين أم سلمان؟"ص109.
القصة الرابعة ( القصف و المراحيض ) يبدو العنوان غريباًـ يتخيل المرء قصفاً في المراحيض، أتذكر قولاً أثناء وجودي في سجن الرمادي القديم " المحجر" كانت هناك مشكلة في التواليت، حيث خط أحدهم داخلها ( يسقط مدير السجن.. يسقط مأمور السجن المفوض فهد الدليمي ) جمعوا السجناء العاديين وليس السياسيين وأعطوا لكل سجين ورقة وأملوهم تلك الشعارات.. بعدها قال العريف محمد مخففاً من غضب المدير والمفوض " صحيح قالوا المراحيض قرطاس المجانين ".. وأنا أقرأ هذه القصة سقطت أمامي كلمة يسقط، فقد رأيتها بعد ذلك في الكثير من المراحيض العامة..
القصة استنباط لفكرة رائعة، سرد عميق.. في التاريخ، العمارة، البشر، الفرق في الوعي الاجتماعي " قريتي في العراق تقع تماماً فوق آثار العاصمة الآشورية"ص105. بينما التاريخ كله ينتشر في القرية، من المراحيض إلى عتبة الدار " لقد ضاعت آثار العراق يا أخي، بعضها سرقها الإنكليز والألمان والفرنسيون وبعضها باعها رجال الحكومة"ص106.. هل بقت مشكلة سرقة الآثار مناطة بالمستعمرين؟ أم الوباء الأكبر رجال البلد الذين هم على أساس أحفاد أولئك الذين صنعوا هذا التاريخ لكن على ما يبدو أن انقلاب السيارة لم يكن كما هو انقلاب بلد على رأسه " فأجابه صديق صديقي، وهو عراقي أيضاً: إذا انقلبت بك السيارة فنحن قد انقلب بنا بلد بأكمله"ص106.
هل كان بطل القصة بعد ما أنقذ من قصف القنابل للمراحيض الذي لم يستطع دخوله بالمصادفة والذي أدى به إلى اتخاذ مكاناً أخر يريد أن يقبل غائطه لنجاته فعلاً؟ "من وين أبوسك"ص108.
القصة الخامسة ( حياة محكومة بالقصف المؤبد ) انتقال إلى مكان وزمان آخرين، إلى أفعانستان، احتلال هذا البلد، صور الحرب لا تختلف عن الحربين العالميتين، فيتنام، كوريا، حزيران 1965 وما بعدها، الحرب مع إيران، الحرب ضد الأكراد، في هذه القصة بدى الرملي ضيق النفس، لم يستطع توضيح أفكاره ولا توظيف لغته السردية،لآرائه كناقل، النقص كان منفعلاً وسريعاً، لقطات سريعة وأضواء أسرع ما كادت تشع لكي تنطفئ.
القصة السادسة والأخيرة ( أنا وأنت والناقة مسعودة في عاصفة الصحراء) هي بالنسبة لي أفضل قصص المجموعة، تناول فيها قضية في غاية الدقة.. الغربة داخل الوطن كما الغربة خارجه، الاغتراب الداخلي المتواصل، هذه المرة عن طريق اللجوء، الهرب من جحيم لا توجد ثغرة للحرية فيه، وجحيم يقوم على حرية الحركة والتفكير، ولكن التنقل بحدود معينة حتى في بلد اللجوء " أنا حر أخيراً، وان كنت لا أدري ماذا أفعل بحريتي"ص113.. الحقيقة هو لم يكن حراً، لأن الاجترار سجن من نوع آخر، هناك فرق بين التذكر والاجترار الذي عاشه مرتين، أثناء الحرب، وفي بلد اللجوء "تذكرت دموع الناقة مسعودة واختزلت كل ذكرياتي عن الحرب بصورتها جالسة أمام أشلاء ولدها رافضة الأكل على مدى ثلاثة أيام، ثم هديرها وسط الهجوم.."ص113. ثم "علينا أن ننام بأعين مفتوحة وأكثر من جندي خفر كي لا ينهار علينا الرمل ونحن نيام"ص114. وبما أنه كان منذ البدء يشعر بالاغتراب عن كل شيء فقد تجلت الكذبة، مفضوحة وعاهرة؛ " سيتمكن الراعي من أن يرى طائرة الشبح بعينيه ويلُحها بعصاه"ص114.. أي خدعة هذه للوعي العراقي التي أطلقها حاكم العراق السابق صدام حسين، بعد التشويه العام والخاص لدى الجماهير الواسعة.. عصا تسقط طائرة شبح، قمة الخداع، خلق قيم متدنية لإستيلاب إنسانية الفرد والجماعة.. لو كانت الكذبة " بندقية تسقط" لكان الشر أهون، لكنه الخداع والضحك على الذقون.
استطاع الرملي توظيف صور عديدة وضعها في إطار الناقة مسعودة( الأم) للدلالة، الجندي الهارب من واقعه مرتين، الأسير الذي يعاقبه عربي ملتحي "على أبناء جلدتهم أسود " بينما تعطف عليه وتساعده مجندة أجنبية.
لقد أتمّ محسن الرملي مجموعته بعدما أخذنا في سفر المفردة الواحدة (القصف) تركزت في عمله (ليالي القصف السعيدة) التي لم تكن سعيدة وهذه حلاوة الموضوعة، إنها محاولة جادة وجديدة، ولهذا أطلت في موضوعها، وربما من يسأل: انه عمل صغير لا يتجاوز الـ 117 صفحة!.. الإجابة بسيطة: نعم عمل بحجم صغير لكنه مهم وكبير في مضمونه، ولكونه جديد وجدت من الضروري منحه فسحة كتابية أكبر، لعلها تشجع الذين عاشوا حياة القصف من الكتاب العراقيين لكي يكتبوا فيه، عن تجاربهم التي عاشوها مع القصف الذي أستمر 35 عاماً.. هنا قصف متنوع وليس بالضرورة في الحرب.
ان محسن الرملي على الرغم من كل ما ذكرته، فقد ابتعد عن الأسباب لهذا القصف ومر على الفكر الشمولي مرور الكرام ولم يتعمق بهذه الظاهرة ليظهرها كظاهرة عمت العراق منذ 40 عاماً، هذا الحكم الشمولي الذي كان أحد ضحاياه شقيقه الروائي المرحوم حسن مطلك إضافة إلى عشرات الكتاب والمثقفين الذين قضوا حياتهم في الحرب أو السجون وهاربين من البلاد.. وعشرات الآلاف من الضحايا وأكبر شاهد في التاريخ وللتاريخ (القبور التي تم اكتشافها مثل اكتشافات الآثار العراقية).
بقى أن نقول ( ليالي القصف السعيدة) صدرت عن دار السنابل للنشر والتوزيع في مصر بـ 117 صفحة من الحجم المتوسط، لوحة الغلاف (حزن من رأى) للفنان العراقي خالد كاكي، صورة الغلاف الخلفي: الرملي أمام شجرة الجرنيكا..
للرملي عدداً من المجاميع ( هدية القرن القادم 1995 ، البحث عن قلب حي 1997 ، أوراق بعيدة عن دجلة 1998 ، حازت روايته (الفتيت المبعثر) على جائزة أركنسا الأمريكية باعتبارها أفضل عمل أدبي مترجم إلى الإنكليزية لعام 2002 ، إضافة إلى إصدارات في مجالات المسرح والقصة والترجمة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في صحيفة (الاتجاه الآخر) العدد 126 السبت 19/7/2003م العراق. وفي (الحوار المتمدن) بتاريخ 4/7/2003م.

C:\Documents and Settings\picasso2\Escritorio\MAKTABA\ResenSobreMus\garib.htm

ليست هناك تعليقات: