الجمعة، 6 مارس 2009

قراءة / محمد العبسي



ليالي القصف السعيدة
للعراقي محسن الرملي

كتابة ساخرة على جدران الحرب

محمد العبسي
ـ القاهرة ـ

الآن كل شيء داخل منظومة القصف؛ أخبار الدنيا كلها لا تقدم سوى القصف، الكلام قصف والصور قصف والمناقشات قصف والأصوات الهادرة قصف والخطب قصف والمؤتمرات قصف.. لذلك يبدأ الكاتب العراقي محسن الرملي كتابه الجديد (ليالي القصف السعيدة) بقوله: "حين عدتُ من الأندلس إلى بيتي في مدريد قادماً من مظاهرة اشترك فيها أكثر من عشرة آلاف شخص، نظمتها أحزاب اليسار والهيبيون والمثليون الجنسيون والمعارضون للعولمة والمدافعون عن البيئة وحقوق الحيوان.. سرنا فيها من وسط مدينة قادش، مدينة ألبرتي الذي تمنى أيام كان منفياً أن يكون زهرة في وطنه كي تأكله بقرة من وطنه، أو تقطفه طفلة من وطنه، أو يحمله، على أذنه، فلاح من وطنه، وأن يُدفن في تراب وطنه.. وها أنا الآن منفياً في وطنه أتمنى أن أكون زهرة في وطني.. لأنني مثله أشعر بأنني وحيد بلا وطني.
سرنا من مقهى ألبرتي وسط قادش حتى قاعدة مورون الأمريكية على شاطئ البحر المتوسط. لكل جماعة أو حزب أسباب اعتراضه على وجودها، وأنا العراقي الوحيد، وسط هذا الحشد، بلا حزب وبلا جماعة، واعتراضي أنها قاعدة انطلاق الطائرات التي قصفت بلدي، فكنتُ أهتف بكل شعارات المظاهرة أكثر من غيري، لكنني أردد في قلبي شعاري الخاص وسؤالاً واحداً لإسبانيا، متذكراً ما قدمه لها زرياب العراقي: لماذا نمنحكِ الموسيقى وتمنحينا القذائف؟.. لماذا؟."
ونتيجة لما يشاهده أمامه، حيث يعيش في منفاه بإسبانيا، أو ما يراه على شاشات التلفزيون، يجتر الكاتب أخبار القصف؛ قراءاتي وذكرياتي عنه، التاريخ والأرقام والموتى والأغاني والتبريرات وفراق أحبة ودم ومدافن وحرائق ومنافي وحديد وكلمات ونار وتكسير عظام ونظرات دامعة.. كل شيء هو قصف أو تبادل قصف. وجدتني أرى كل شيء في هذا العالم عبارة عن قصف فظننت أنني عثرت على الرؤية أو النافذة التي أستطيع عبرها فهم هذا العالم.
وهكذا يتناول محسن الرملي العالم عبر مفردة القصف ويسعى عبر صفحات كتابه الذي يقع في 120 صفحة والصادر عن دار سنابل للنشر والتوزيع، لاستنطاق هذه اللفظة، المفردة بشتى دلالاتها وإيحاءاتها. ويستثمر الكاتب في مجموعته القصصية الجديدة الإمكانيات التي يتيحها (فن القص) مرتكزاً في اشتغاله على استنطاق مفردة واحدة يهدف من خلالها إلى تلمس رؤية ما لهذا العالم.
ويقسم الكاتب عمله إلى قسمين، الأول: (كتاب القصف) ويستخدم فيه أسلوباً سردياً يمزج فيه بين الواقع والخيال، المعلومات التاريخية والجغرافية، الصحفية واللغوية، الشعر والحكاية، فيسرد تاريخ القصف في مراحل ثلاث أو مجلدات ثلاثة هي: طفولة الدنيا، مراهقة الدنيا، شيخوخة الدنيا، ثم يتبعها بعنوان (قصف لغوي) باحثاً في مفردات القصف في الشعر العراقي منذ جلجامش، والبحث عن معاني كلمة قصف واشتقاقاتها اللغوية واستخداماتها في التراث ثم توظيفها في الأدب المعاصر وفي الحوار الشعبي اليومية. والكاتب هنا يبتدع شخصية يسميها محمد بن مكرم يبعث إليه برسالة تحدثه عن القصف لغوياً لتفتح له آفاقاً واسعة لقصف القصف بالتخيل والأحلام والحكايات والتأويلات والكتابة لينهي رسالته للكاتب ساخراً أو مهرجاً أو متفكهاً بقوله: فانتبه يا رملي لما تقصف به الناس من قذائف كلامك. وموقعاً المخلص؛ محمد بن مكرم ابن منظور.
فيما يضم القسم الثاني من الكتاب (ليالي القصف السعيدة) ست قصص قصيرة تدور جميعها حول الحروب وتأثيرها النفسي والمادي على الشعوب. وينظر الكاتب إلى العالم في لحظة سوداوية لم ير فيها ما يستحق العيش لأجله، فالفرد يولد باكياً ويذهب مبكياً عليه وهو بين البكاء والبكاء يعيش حياة تعيسة قليلة هي الفرحة فيها.. يعيش في هذه الحياة إما قاصفاً أو مقصوفاً: "عرضتُ الليلة على صديقي، بعد أن تناولنا العشاء في مطبخ بيته، ما كتبته ليلة أمس في مطبخ بيتي. وكان هذا أول نص أكتبه عن القصف، فقال: عليك أن تجد له إطاراً حكائياً إذا ما كنت تفكر بنشره على شكل قصة، وفي الحقيقة، إنني أتفق معه على ذلك ولكنني فشلت في إيجاد هذا الإطار.. فمن ذا الذي يستطيع تأطير القذائف؟!".
وفي نص بعنوان (القصف في غرفة أمي) يتحدث الكاتب عن مأساة الشعب العراقي وسط القصف والتدمير والشعور المسيطر بالخوف والهلع: " بعد أن قُصِفَت اتصالات بغداد سكتت إذاعتها وانطفأ التلفاز فلم يبق لأهالي قريتنا إلا الإذاعات الأجنبية وعادت ثقوب أجهزة الراديو تعانق ثقوب أذان الفلاحين لتكون مع إشاعات المقاهي وحكايات الجنود الهاربين مصادرهم الوحيدة في معرفة ما يحدث حيث لم يكونوا يرون إلا الطائرات العالية سود بحجم الغربان تخترق غيومهم، وأعمدة الدخان والغبار المرتفعة من الكهوف التي كانت تحفرها الحكومة تحت المدينة الأثرية منذ أعوام قائلة بأنه مصنع للسيارات فيما تقول إذاعة مونت كارلو بأنه مصنع أسلحة دمار شامل، فيتفجر جبل مكحول في الضفة الأخرى من النهر وتهتز جدران الطين هنا، يرتجف سعف النخلات المتبقية، تفزع الأبقار والحمير والنعاج، تنبح الكلاب وتقوقئ الدجاجات.
إن ما يسمعه أحد أفراد القرية يصل إلى أسماع الجميع خلال ساعتين لذا فقد كان لتعليق إخباري في القسم العربي من إذاعة لندن عن احتمالية أن يضرب العراق جيوش التحالف بأسلحة كيميائية وجرثومية وأن التحالف سيرد بمثلها، الأثر الأكبر في تحويل القرية من كائنات هادئة تمارس حياتها اليومية بقلوب وجلة على أبنائها في الجبهات إلى ضجة من الفزع والحركة حيث راح الجميع يسدون نوافذ بيوتهم بالكارتون من الداخل والبلاستك من الخارج وتطيين كل ما هو لا مع من براميل المياه والسيارات ومكبرات الصوت في منارة الجامع وكل ما هو أبيض بما في ذلك النعاج والدجاج وشواهد القبور. وجمعت أمي أحفادها في حجرة واحدة من البيت، في غرفتها تحديداً، سدت نافذتها بإحكام وحشرت بطانية تحت الباب بعد أن أدخلت معها ما تبقى من أكياس الطحين والعدس والسكر والبصل والفاصولياء والحمص والطباخ وفانوساً، متمنية لو أن أبي حيّ كي يعينها على تجاوز هذه المحنة ويمنحها القوة لأنه خبر الحروب منذ عهد الإنكليز.. ولأنها كانت قلقة على بقرتيها والحمارة فقد فتحت بعد ساعة بظهر الملعقة ثقباً في الكارتون والبلاستك ثم وسعته بإصبعها كي تراقب حيواناتها في الزريبة المقابلة بعد أن تركت لها في معالفها ما ظنت بأنه سيكفيها من التبن والشعير والماء لأسبوع كامل، وتمنت، أيضاً، لو أنها تستطيع رؤية جارتها أيضاً. وراحت ترتب الحجرة كي تتسع لأواني الطبخ ومنامات كنتيها بأطفالهما التسعة. وبعد أن انتهت متعة الأطفال بهذا التغيير الجديد راحوا يبحثون عن أشياء أخرى تسليهم فأباحت لهم اللعب بكل شيء إلا الصندوق الذي تحتفظ فيه بأشياء أبي على رف واطئ في الزاوية (ممنوع اللمس). فعبثوا بكل شيء وانتهوا بالتقاصف فيما بينهم بحبوب الحمص والفاصولياء ثم ضرب بعضهم لوجوه البعض لذا جمعتهم حولها وشرعت تسرد لهم الحكايات التي كانت تسمعها من أمها في طفولتها عن السعلاة والحنفيش ونصف النصف والطنطل والسندباد.. فوجدت في ذلك متعة لها هي باستعادة ذكريات حول مواقد الجمر وفرقعة بذور الذرة في الشتاءات البعيدة قبل أن يعرفوا مدفأة النفط.. وسرها صوتها الخاص وهي تتأكد من أنها مازالت تذكر تلك الحكايات التي قبرها التلفاز بحضوره منذ أعوام حين أهدته الحكومة إلى الفلاحين كي يواكبوا تعبئتها لسنوات الحرب مع إيران.. وعندما حل الليل سد الظلام ثقب النافذة ولم تعد تر شيئاً في الخارج. لانت رقاب الأطفال وأطبق النعاس أجفانهم فأخرجتهم بمعونة أمهاتهم على عجل كي يتبولوا في (طشوت) أعدتها لذلك في الغرفة المجاورة وأعادتهم ليناموا وتبقى ساهرة مع كنتيها تحدثهما عن طفولتينا أنا وأخي البعيدين عنها في الجيش فكانت زوجتانا تسألانها عن تفاصيل حياتنا الأولى فيزددن معرفة بنا وحباً لنا.. يتضاعف شوقهن إلينا وخوفهن علينا.. حتى نامتا حالمتين بعودتنا فيما بقيت أمي لوحدها تنظر إلى النائمين وتزيح الدثار عن أنف حفيد يشخر في تنفسه، وتنزل ساق آخر عن بطن أخته. وتتذكر رجوعات أبي من قتاله في ثورة العشرين ومن أسره في الأردن بعد أن أخذه الإنكليز من الحبانية لاشتراكه في حركة رشيد الكيلاني، حيث حدثها عن منع الأمير عبدالله لقائد الإنكليز غلوب باشا (أبو حنيك) من إعدامه مع ثلاثين من رفاقه قائلاً: "العراقيين زلم خشنة ما يستاهلون الموت". وإعارة بدو في الصحراء الغربية له فرساً أوصلته حتى مدينة الدليم.. كم تحتاج إلى حضوره الآن!.. ولكنه قد مات منذ ثلاثة أعوام حزناً على مقتل أبناء أخته في الفاو لذا تستحضره في ذاكرتها وتحدق بالصندوق الوحيد المتبقي منه حيث جمعت فيه ثيابه وأدوات حلاقته وكتبه ودفاتره وأقلامه ولم تفتحه أو تسمح لأحد بفتحه منذ موته إلا مرة واحدة حين هاجها حتى أذبلها الشوق إليه ففتحته ودفنت وجهها وسط الثياب، تشممت رائحته، وربما بكت، لأنها شعرت بالراحة ثم أغلقت الصندوق…".
والمؤلف كاتب عراقي عايش الحرب ويقيم حالياً في إسبانيا، وقد حازت روايته السابقة "الفتيت المبعثر" على جائزة (اركنسا) الأمريكية باعتبارها أفضل عمل أدبي عربي مترجم إلى الإنكليزية لعام 2002. وصدر للمؤلف عدد من الكتب في مجالات القصة والمسرح والترجمة، منها: "هدية القرن القادم" عام 1995، "البحث عن قلب حي" عام 1997 و"أوراق بعيدة عن دجلة" 1998.. وغيرها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشر في مجلة (نصف الدنيا) السنة 14 العدد 693 الأحد 25 مايو 2003 القاهرة.
*و في الملحق الثقافي لصحيفة (عُمان) بتاريخ 28/4/2003 العدد 8000 ـ سلطنة عُمان.

ليست هناك تعليقات: