الخميس، 17 سبتمبر 2009

قصة / محسن الرملي

قصة
الشاعر الشَجَرة
محسن الرملي

الاستمتاع بإغاضة الآخر؛ من صفات الصغار.. كنا صغاراً إذن، نتراهن على من يستطيع القفز بارتفاع قامة كريم ووضع حصاة في جيبه أو التمكن من قطف شعرة من صدره مفتوح القميص في حر المناخ العراقي. وكلما كان الاستفزاز أكثر إزعاجاً، ازدادت المتعة. ولم تكن تقافزاتنا هذه لتغضبه بقدر ما تفعل مناداتنا إياه بـ (شجرة). حَسّان كان يغني من خلف سياج المدرسة. "الطول طول النخلة ... والعقل عقل السَخلة" وما أن يلتفت إليه كريم حتى يختفي الرأس وراء الحائط وتتعالى القهقهة.
تبقى هذه الصفة الصبيانية ترافق بعض الناس مدى الحياة، ويظلون يستمتعون بإيجاد الطرق لاستفزاز الآخرين، والغالبية تتجاوزها وتخجل منها ثم تنساها. أما كريم فلم يكن من هذا البعض ولا مثل هذه الغالبية.. ربما لأنه كان ضحية لهذا السلوك. فكل ما يبدو ليس عادياً، ولو بقليل، يصبح هدفاً لهذا الشغب المراهق. ومن قدره أنه طويل القامة بشكل غير عادي، الأمر الذي جعلنا نناديه دائماً (يا شجرة) حتى كاد الجميع ينسى اسمه الحقيقي، لكن الذي ليس عادياً فيه أيضاً هو هذه الطِيبة اللامتناهية والهدوء وندرة الكلام. ربما لم يكن يكثر الحكي من باب التهذيب كي لا يضطر الآخرين إلى طي رقابهم إلى الخلف والتطلع باتجاه وجهه السابح في الغيم، ربما لأنه يعيش متوحداً هناك في الأعالي وثمة كائنات عليا يراها هو ولا نراها نحن ولهم لغة تخاطب تخصهم ولا نسمعها. ربما أن نظراته كانت حزينة.. لسنا على يقين من ذلك، لأننا لم نحدق في عينيه مباشرة بحكم بعدهما عن أفق نظرنا. كان باستطاعته أن يأخذ القافز منا، إلى جيبه أو صدره، بيده العملاقة، يحمله ويلقيه مثل خرقة تافهة وراء سياج المدرسة، ومع ذلك لم يفعل، مكتفياً بنفضنا عنه بكفه الواسعة كمن يطرد ذباباً مزعجاً، ويواصل قراءته في الظل مستنداً بظهره على برودة الجدار الحجري. لكن الخلاص غير المتوقع الذي أنقذه من كل ذلك وسحب البساط من تحت دوافع استمتاعنا باستفزازه هو قراره بتقبل أن يُسمى (شجرة)، بل ويصر على تقديم نفسه هكذا وينتشي لمناداة الآخرين له به. حدث ذلك فجأة بعد أحد دروس الإنشاء الذي صادف في يوم عيد الشجرة وخصصه معلمنا الشاعر للحديث عن الشجرة فقط؛ معانيها، وصفاتها، وجمالياتها، وطيبتها، ورموزها، وكرمها وهي تأكل الضوء وتهدي الأوكسجين، ومنحها الثمر لمن يرميها بحجر، وتحوّلها إلى سقف أو عمود يحمل سقفاً يأوي عائلة فقيرة، وتحولها إلى زوارق وكراس وورق وأسِرَّة وأقلام وحطب لنار الخبز والتدفئة، وصبرها وكرامتها واقفة حتى الموت بتعال، رأسها في السماء وجذورها في الأرض كأنها مسمار يربط بينهما... والشجرة يا أبنائي الأعزاء كلها خير وجمال ومنفعة. يصعب قول شيء ضدها أو قول كل شيء عنها في درس واحد، فليزرع كل منكم ولو شجرة واحدة في حياته، واليوم هو عيد الشجرة فصفقوا لها بقوة. صفقنا، وصفقنا على إيقاع قوافي الأبيات الشعرية المتغنية بالشجر التي يحفظها المعلم... حتى ختم كلامه قبل انتهاء الدرس بتذكيرنا أن نكون أعزاء النفوس والكرامة كالأشجار ولا نموت إلا بشجاعة (فالأشجار تموت واقفة).. حينها تمنينا كلنا لو نصبح أشجاراً.. إلا أن كريم هو الوحيد الذي كان مؤهلاً لذلك.. وهكذا كان.
صادف عيد الشجرة ذاك كآخر درس ليوم خميس، وفي الدرس التالي بعد عطلة نهاية الأسبوع، التي لم نر فيها كريم في ملاعبنا، كالعادة، باعتباره أفضل مراقب للخطوط أو لأعلى شبكة كرة اليد من مس اللاعبين. قال كريم للمعلم أنه قد كتب، هذه المرة، قصيدة لدرس الإنشاء، فسُرَّ المعلم وطلب منه أن يقف أمام الفصل ويقرأها. كانت المفاجأة أن عنوانها "أنا شجرة" فقهقهنا بخبث مُخبأ وزجرنا المعلم. أعلن كريم في قصيدته عن اعتزازه بطول قامته كالأشجار وأنه قد قرر اتخاذ اسم (شجرة) لنفسه وعلى الجميع أن يناديه بهذا الاسم، وأنه يغير الاحتفال بعيد ميلاده ليكون في يوم عيد الشجرة وعلى من يحبه أن يقدم له الهدايا في هذا اليوم فقط، لأنه لن يقبلها في غيره. فكان الأمر عَجباً لنا جميعاً وصفق المعلم لأول مرة آمراً إيانا بالتصفيق. أثنى على القصيدة وموضوعها مانحاً لكريم عشر درجات في الإنشاء، ومن يومها لم يكف عن كتابة الشعر، فيما خسرنا نحن لعبتنا بالتحرش به لأنه صار يفرح بدلا من أن ينزعج حين نناديه: شجرة، وأخذ يكثر من لبس القمصان الخضراء والمُشجرة. وبدل أن يستند إلى برودة حجر جدار المدرسة حين يقرأ، راح يلجأ إلى ظلال أشجار الحديقة مسنداً ظهره إلى جذوعها. شَعرنا بأن الحزن، الذي كنا نظنه قابعاً في نظراته، قد تحول إلى ضوء بهيج، ربما كنا نخمن طبيعة نظراته من خلال طريقته اللقلقية في المشي لا أكثر. ولأن اسمه الجديد الذي أصبح يُرفق بكلمة (الشاعر) أخذ يسطع في المدرسة والحيّ، وخاصة بعد نشر عددا من قصائده وصورا له في صفحات القراء في بعض الجرائد والمجلات، ولأن البنات لم يعدن يرين قامته وإنما شِعره وحسب. شرع أكثرنا بالتودد إليه محاولين كسب صداقته. كنا نكبر ويكبر معنا الحرص على تسميته (شجرة) وإرسال البطاقات والهدايا إليه في عيد الشجرة. لكنه ظل كما هو طيباً، قليل الكلام.. ويزداد انطواءً على نفسه وعلى الكتب والأشجار.. إلى أن قرر، ذات يوم، أن يغادر البلد لأن الصحف أقرّت الامتناع عن نشر أية قصيدة لا تمدح (القائد!) وحروبه، ولأنه لم يعد يحتمل أن يسرق الجنود لون الأشجار ومساحاتها بشكل متزايد كلما امتدت أعوام الحرب، وأن تُحوّل الحكومة الحقول الخضراء والغابات إلى معسكرات ومخازن للجيش، وأن تقطع أشجار الشواطيء في المدن وفي الجزرات الوسطية في الشوارع لتنصب مكانها تماثيلاً سوداء برونزية متشابهة للقائد ببدلته العسكرية، على حصان أو دونه، رافعاً ذراعه كالسيف فوق الرؤوس بحجة التحية. وكان ثمة تماثيل أخرى تشبهها، ولكنها أصغر قليلاً، لضباط وجنود قتلوا في الحرب. ويعلق كريم: إنهم يقطعون ما هو حي وينصبون ما هو ميت. إلا أن الذي أوصله إلى اتخاذ هذا القرار بشكل نهائي هو رؤيته لمشهد قاس جرح قلبه، في التلفاز والصحف. أحزنه حد البكاء: آلاف وآلاف من أشجار النخيل الجنوبية وقد بُتر سعفها أو احترق بفعل كثافة القصف والنيران المتبادلة بحيث تحولت إلى غابات موحشة لا نهاية لها من الجذوع السوداء فقط، كأنها أعمدة كهربائية عتيقة أو مسامير أسطورية أو متاهة في الدرب إلى كوخ ساحرة شريرة في حكايات الأطفال. مسح دمعه بكم قميصه الأخصر وردد:"الأشجار تموت واقفة".. ثم انطلق متسللاً مع المهربين إلى تركيا، ومنها عبر سُبل مغامِرة سَلَّله مهربون آخرون إلى ألمانيا، وكان على امتداد درب الفرار يعزز شجاعته بتكرار "الأشجار تموت واقفة.. الأشجار واقفة.. الأشجار.. جار..". ويقول في إحدى قصائده: "سأمشي في الطريق الأخضر نحو البلاد الخضراء. سأمشي أخضر القلب والقميص، ولن أموت إلا واقفا"ً. وهناك ادعى أنه بلا وثائق، كأغلب الهاربين طلباً للجوء وبحثاً عن الحرية، وهكذا تمكن من أن يجعل اسمه في وثائقه الرسمية "شجرة" كما أراد، واشتغل في مشتل لنباتات الزينة والورد وفي حراسة الحدائق أو ري المتنزهات وتنظيف عشبها من نفايات المتنزهين، مؤمناً بكون النباتات وحدها التي لا تُشعرك بأنك أجنبي ولا تستشعر منها أية عنصرية. لكنه ظل حزيناً طوال أعوام منفاه، يعلق في صالونه صورة كبيرة للوحة جواد سليم (الشجرة القتيلة) ويسكر حد البكاء كلما تذكر مشهد النخيل العراقية مقطوعة الرؤوس.. ويغني أحياناً "نخل السماوة يقول طرتني سمرا.." حالماً بان ينتهي زمن الدكتاتور ليعود ويفعل كل ما بوسعه لزرع الأشجار أكثر من كتابة القصائد، قائلاً: ستكون قصائدي للوطن أشجاراً وتكون مواطنتي خضراء شِعرية.. خضراء.. خضراء..".

------------------------------------
*نشرت في صحيفة (الأديب) العدد 173 بتاريخ 13/8/2008م بغداد.
http://www.al-adib.com/DisplayPDF.aspx?file_path=c:\domains\al-adib.com\wwwroot\Issues\issue_173_13_8_2008\P10.PDF

ليست هناك تعليقات: