الأربعاء، 21 أبريل 2010

.. عن الرقابة / استطلاع: دليلة قدور


.. عن الرقابة


من إستطلاع: دليلة قدور

الكاتب العراقي محسن الرملي:

الرقابة الذاتية موجودة ودائمة مادمنا نعيش مع الآخرين وللآخرين


صرح الدكتور العراقي المقيم في إسبانيا "محسن الرملي" بأنه مازال يمارس على نفسه نوع من الرقابة الذاتية حتى في عصر التطور التكنولوجي، ولا يستطيع الادعاء بأنه يكتب كل ما يفكر به بمطلق الحرية، فالمهم عنده أن لا تسبب كتابته أذى أوجرح أو إزعاج لشخص إنسان قريب منه أو حتى بعيد، كذلك لا يعمد إلى التصادم والبحث عن استفزازات مجانية ومقصودة تتعلق بأخلاقيات معينة أودين وما إلى ذلك مما قد يسبب جرحاً لمشاعر الآخرين.
هذا ولايعتقد صاحب رواية "تمر الأصابع" بوجود ما يسمى بالحرية المطلقة والكاملة في الكتابة الإبداعية رغم ما قد توفره شبكة الأنترنيت في التعبير بكل طلاقة وبلا قيود، لكون الإنسان خاضع بالأساس لشروط وجودية وفيزيائية واجتماعية، ولم يكن له إختيار زمان ومكان ولادته وعائلته وجنسه وثقافته ولغته الأولى، ولكل هذه العناصر تأثيرات مباشرة في طبيعة حياتنا وتفكيرنا وسلوكنا وما نقول وما نكتب.
وأضاف "محسن" أنه بإمكان المبدع أن يعبر عن كل ما يريد بأشكال وصيغ لا حصر لها وبأسلوب فني راق ومحترم دون أن يتسبب بإيذاء مشاعر أحد. أما بالنسبة لما يتعلق بالسياسة ورضا أو انزعاج المؤسسة فهذه المسألة كما قال تجاوزها ولا يضع لنفسه أي رقيب بشأنها عند الكتابة.
وفي سياق حديثه أوضح أن العديد من نصوصه تعرضت للرقابة والرفض، ومن ذلك ما كتبه في بداياته في العراق، أي تعرضت للحذف والإضافة حيناً أوتغيير بعض عناوين قصصه حيناً آخر، كاستبدال كلمة (قتيل) بكلمة (شهيد) وإضافة تعبيرات مثل (بطل) و(شجاع) وغيرها من التغييرات التي قام بها المحررون لتتناسب ودورهم في الرقابة ومع الخطاب التعبوي آنذاك.
وراح "الرملي" يستشهد بأمثلة أخرى عن مقص الرقيب منها تعرض كتابه الأول (هدية القرن القادم) عند طباعته في الأردن لعملية حذف العديد من المقاطع والتعبيرات والكلمات، وذكر بأن الكلمات التي تم حذفها كانت تستخدم وبلا هذه الحساسية منذ عصر الجاحظ وإلى اليوم، لكن إصرار الرقابة على الحذف والتغيير بحجة المحافظة على سلامة الذوق والوعي العام، جعله يضطر وقتها لنشر كتابه تبعا شروطهم.
واستغرب الروائي محسن ما حدث له مؤخراً، وهو رفض صحيفة (النيويوركي) الأمريكية نشر ترجمة قصته (برتقالات وشفرات حلاقة في بغداد) بحجة أن فيها (عنف) أكثر من اللازم، وأردف بقوله "عجباً أن يأتي هذا من الأمريكان الذين يحتلون بلدي ويمارسون فيه كل بشاعات العنف والتخريب والقتل!"
وخلص" محسن الرملي" إلى أن مسألة الرقابة التقليدية لم تعد فاعلة اليوم وقد اضمحلت أو انتهت ولا تمثل حجة حقيقية أمام أي كاتب بحيث تمنعه عما يريد قوله، ويمكن نشر أي شيء عن أي شيء، ولكن تبقى طبيعة مسألة الرقابة الذاتية للكاتب نفسه وما ينسجم مع رؤيته وأخلاقياته وسلوكه هو شخصياً، موجودة ودائمة ما دمنا نعيش مع آخرين ونكتب عنهم ولهم، وحسب رأيه، فإن هذا أمر يتم بأشكال تختلف من كاتب إلى آخر، فمثلما يراقب الكاتب أسلوبه الفني ولغته وأدواته فهو في الوقت نفسه وبداهة يراقب موضوعاته، إذ من غير الممكن أن نجد كاتباً جاداً يكتب كل ما يخطر له وكيفما كان ولا يراجع ما يكتب بصيغة ما. فالكتابة أصلاً هي نوع من أنواع مراقبة الذات والآخرين والطبيعة والأحداث ومحاولة القبض عليها أوتدوينها لفهمها أكثر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشر في صحيفة (الأمة العربية) الجزائرية، العدد 426 بتاريخ 15/4/2010م.

http://www.eloumma.com/ar/PDF%202010/Avril%202010/eloumma426.pdf

الثلاثاء، 13 أبريل 2010

زاوية (جداريات) / بمناسبة يوم الكتاب


بمناسبة اليوم العالمي للكتاب

عن التقليد والأخذ بالجاهز

د.محسن الرملي

لا ضير بالتقليد، بل أن كبار من المبدعين المعلمين ينصحون به أو يعتبرونه ضرورة، وخاصة في البدايات، إلى أن يتم لاحقاً إيجاد الأسلوب الخاص، شرط ألا يكون التقليد أعمى أو يتم التوقف عند حدوده والاكتفاء به، فهو على هذا النحو لن يشكل إضافة مادام الأصل موجوداً. ومن بين الإشكاليات التي اعتدنا على تأشيرها في ثقافتنا العربية عموماً وننتقدها أحياناً، هي أننا نقلد الغرب، لكن تأمل ذلك على نحو آخر سيكشف لنا بأننا في الحقيقة لانقلد وإنما نأخذ الأفكار أو البضائع جاهزة كما هي، كاملة أو ناقصة، دون أن نسعى لمحاولة تقليد صناعتها بأنفسنا، وإن حدث فعادة ما يكون تقليداً ضعيفاً أو مشوهاً، وعلى هذا النحو نحكم على أنفسنا بالتبعية وبالبقاء في خانة الاستهلاك وليس الإنتاج.
ولنأخذ أمثلة على ذلك مسألة الأعياد والمناسبات والتي لا يكلف تقليدها شيئاً مُعجِزاً. أقول هذا بمناسبة اقتراب يوم الكتاب الذي تقام فيه المعارض وتنتشر الكتب حتى على الأرصفة وتقام حفلات التوقيع ولقاءات الكتاب بقرائهم وإصدار الجديد وإعادة الطبعات.. ويهرع الناس لشراء الكتب وتبادلها كهدايا مصحوبة بورد وعبارات جميلة، بحيث أن مدينة كبرشلونة مثلاً يباع فيها نصف مليون كتاب تقريباً في هذا اليوم وحده.
في 23 نيسان سيحتفل العالم بيوم الكتاب والذي يصادف ذكرى وفاة ثربانتس وشكسبير وغارثيلاسو ووفاة أو ولادة كُتاب آخرين من أمم مختلفة لا ذِكر لأي عربي بينهم، ولا بأس بالمشاركة في هذا اليوم وإن كنا غير مشاركين في تقريره على الرغم من عضوياتنا في اليونسكو. ولكن لماذا لانوجد لأنفسنا يومنا الخاص بالكتاب العربي أيضاً؟ بل وحتى يوم آخر للكتاب الوطني الخاص بكل بلد، فتخيلوا أن نحتفي بالكتاب ثلاث مرات سنوياً، بل وحتى إيجاد أيام خاصة بأجناس معينة، لم لا؟ كما هو حاصل مع اليوم العالمي لكتاب الطفل مثلاً والذي تم تحديده في 2 نيسان بمناسبة ميلاد الكاتب الدنماركي اندرسن. لن يكلفنا الأمر سوى التفكير قليلاً والاتفاق، وليكن يوم الكتاب العربي مثلاً في ذكرى وفاة الجاحظ الذي أمضى حياته بين الكتب ولأجلها ومات تحتها إثر سقوط مكتبته عليه، أو أي يوم متعلق بكتاب أو بكاتب نعتز به.. كتاريخ الطبعة الأولى من (ألف ليلة وليلة)، أو تاريخ متعلق بنزول (القرآن) أو جمعه أو طبعه باعتباره أهم الكتب بلغتنا وثقافتنا وعلى هذا النحو نشرك العامة وبقية المسلمين في يوم كهذا، أو نوجد يوماً خاصاً بالكتاب الإسلامي. ويومنا الخاص بالشعر مرتبطاً بأحد تواريخ المتنبي أو غيره من كبار شعراء عربيتنا، ويوم للحب متعلقاً بقيس وليلى أو بابن حزم أو بابن عربي الذي قال أن ديني هو الحب، بدل تعلقه بالقديس فالانتاين؟ ويوم للموسيقى متعلق بالموصلي أو بزرياب، ويوم للفن التشكيلي متعلق بالواسطي، عيد للمرأة متعلق بإحدى النساء العظيمات في تاريخنا.. وغيرها، مما نقلد فكرته ونعيد إنتاجه وفق خصوصيتنا. سيحترم الآخر هذه الخصوصية، بل وسيعتاد على تهنئتنا بها ومشاركتنا إياها كما هو حاصل وبقوة باعترافه بأعيادنا الدينية رمضان والأضحى، وبأعيادنا الوطنية التي اخترنا لها تواريخ الاستقلال، وكما هو حاصل مع مناسبات أمم أخرى حيث صار الناس يحتفلون ويقدمون التهاني للصينيين بالسنة الصينية، ومهرجان ريو خانيرو البرازيلي ويوم الأموات المكسيكي وغيرها من مناسبات بقية الشعوب.
ترى هل بلغنا من الكسل الذهني أو من صعوبة الاتفاق حتى على مسألة بالغة البساطة والرمزية كهذه؟ أم ترانا قد اعتدنا على التلقي والانصياع وحسب، بحيث ننتظر أن تأتي إلينا بمراسيم وقرارات رسمية وزارية أو من زعامات الإفتاء؟ لماذا لا تبادر إلى ذلك اتحادات الكتاب أو جمعيات الفنانيين أو حتى مجموعة من الكتاب والفنانيين بلا اتحادات ولا جمعيات، فهل تحتاج مجرد المبادرة أو التفكير إلى ترخيص أيضاً؟!.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشر في زاوية (جداريات) في الملحق الثقافي لصحيفة (الثورة) السورية بتاريخ 13/4/2010 العدد 687

الأحد، 4 أبريل 2010

قصة: عُطلَة / محسن الرملي

قصة

عُـطـلَـة

محسن الرملي

عند فجر صياح ديـ.. مذياع جارتنا، كررنا الحب.. تحاببنا.. ثم نهضتُ عنها ونهضنا معاً عن فراش صباح العُطلة، توجهنا صوب الحمّام، ثم طاولة الإفطار، ثم قهوة الشرفة، تصفحنا الصحف وألقمناها لصفيحة الزبالة.. ليس لدينا ما نفعله، وليس لدينا أية مشكلة.. لم نتكلم، كنا نشعر بالشبع؛ كلاماً وحباً وطعاماً وقهوة وصحفاً وخواء.. نظرنا إلى بعضنا بصفاء وحيادية وبرود.. أو بلا معنى. أعدتُ نظري إلى الشارع، حيث لا أحد سوى العطلة قد تمددت فيه والناس غابت في البيوت وغابت زوجتي في البيت لتتشاغل بغسل صحون الإفطار وملابس أسبوع الوظيفة وترتيب فراش الحب لتكرار الحب في ليل قادم، في فجر قادم بلا مشكلة، فيما بقيت أنا والشرفة والصمت وكرسيها والصفيحة والصحيفة والصمت والشارع والبيوت والمدينة والصمت والعالم وفنجان القهوة والشمس والصمت الذي فكرت بأن أتشاغل بطرده مثلاً.. ولأنني بلا مشكلة ورغبت بالكلام سمعتني أهمس بلا قصد ولا تنظيم.. هكذا: يا حمدان إن جدتك أفضل منك.
تلفتُ حولي؛ لا أحد. وزوجتي تقرقع في المطبخ.. استلذذتُ بالجملة على الرغم من أن اسمي "سليم" وليس "حمدان" .. وليس ثمة مناسبة أو مقاربة للمفاضلة بيني وبين جدتي الميتة منذ بعيد.. يعني منذ حوالي أن عظامها الآن قد صارت رميم، ولكنني عزمتُ على مواصلة التسلي بالدفاع عن هذه الجملة وتبريرها.. هكذا.. فكل شيء أصبح قابلاً للتبرير والتأويل والتحليل والصحيفة والصفيحة والبنيوية والتفكيكية والحداثة والتمشكلية والتمزيفية.. وخرج طفل الجيران وبال على وردتهم في شرفتهم ودخل.
قلت: ربما أن لذتي لمخاطبة نفسي باسم آخر.. لأنني تحررتُ للحظة من قيد اسمي الذي أُجبِرتُ على حمله طوال ثلاثين عاماً.. ولكن لماذا حمدان وليس اسم آخر؟.. ربما.. ربما.. ها.. أذكر قصيدة لأديب شنقوه بتهمة محاولة قتل الرئيس.. علماً أنه لا يعرف استخدام المسدس؛ كانت تقول القصيدة:"يا حمدان إنك شوكة في عين التلفاز".. وأذكر أن حمدان الذي كان يناشده في القصيدة: راعياً مبتهجاً بالحياة، متوهجاً بحب نعاجه والمراعي والسفوح الخضر والناي والشواطئ وملتزم بالدروب والصدق لا بالوظيفة والأيديولوجيات لأنها لا تعنيه.. وأذكر أن المشنوق قد توصل في قصيدة أخرى إلى: أن حكمة العصفور أصوب من حكمة أرسطو وهيجل وماركس وباقي الشلة.. أما عن أن جدتي أفضل مني فإنني أبرره.. لحظة واحدة، من فضلك، حتى أطل من الباب المطل على الشرفة وأتأكد من أن زوجتي ما تزال منشغلة بالتفاهات كي لا تصيدني متلبساً بمحاورة نفسي أو الأصح بمهلوستها.. قلت لحظة واحدة فقط. نهضتُ، مددتُ عيوني من حافة الباب حتى الداخل، ثم عدتُ قائلاً: إنها كذلك.
ها.. أين وصلنا؟.. نعم: يا حمدان إن جدتك أفضل منك.. نعم.. نعم.. لأن جدتي كانت حقيقية أكثر مني.. كانت تنفذ كينونتها كإنسان في كل لحظة.. كانت جادة في ممارسة الحياة، مقتنعة فعلاً بقناعاتها.. تعمل عند العمل بشكل حقيقي وتضحك عند الضحك بشكل حقيقي. وحين قلت لها: أنتِ زوربا يا جدتي. قالت بحزم:" زَربَة عليك وعلى أبوك يا حمار يا ابن الحمار". فضحكتُ منها وقلت: على أبيك وليس على أبوك.. لأن أبي مجرور يا جدتي. فضحكت مني وقالت: أهو مجرور بحبل أم من لحيته أم من خصيتيه؟. وأذكر أنها ضحكت مني ذات شتاء حين رأتني أجاهد لإدخال ساقيّ في بنطلون ضيق.. كانت متدثرة جوار المدفأة بعباءة صوف، حاكتها لنفسها بنفسها، ومسندة رأسها على ذراعها.. ضحكت بقوة حتى بان نابها الوحيد الذي بقي من دون أسنانها، نابها الطويل الجميل بصدأه الأصفر والنيكوتين والشاي وتاريخ اخضرار الخباز وعصيدة الذرة الصفراء.. ضحكت مني حتى انقلبت على ظهرها ثم استعادت استنادها على ذراعها وقالت: لماذا تفعل بنفسك كل ذلك؟. قلت لها: إنها الموضة يا جدتي. قالت بمتعة وقناعة: (....) عليك وعلى الموضة.. فالمهم أن تتدفأ وترتاح.. ولو بجلد عنز.
وأذكر أنني سألتها عن الشَعر الذي استطال في ساقيها حين رأيتهما لأول مرة، حين سربلتهما بالحناء: لماذا لا تحلقينه يا جدتي؟ فأجابت على الفور دون أن تنظر إليّ: ولمن أحلقه مادام جدك قد مات؟. ولم أستطع حينها فهم علاقة جدي بشَعر ساقيها. أذكر أنها كانت تبتهج وتمتعنا في سهر شتائي حول موقد الجمر، تردد على مسامعنا أشعار شعبية تُشبه عيون النساء بعيون البقر ونهودهن بالقطن أو أقراص الزبد وأحضانهن بالجنة أحياناً وبالجحيم أحياناً.. وأشعاراً عن الشاي والدخان والثريد والأحذية والمزابل ومشاكل الزراعة وعمامة المختار والجنس وأشعاراً عن الحمير الحساوية وبائع العلك والحناء وتوابل الهند ومالك الحزين.. فيما أنا لا أجد المتعة الآن في أشعار الصحيفة في صباح العطلة في شرفة بيتي الذي فيه زوجتي وسيارتي وطفلي ووحدي في هذا الكون.. وحدي الذي يعرف، من دون الأقمار الصناعية وأجهزة المخابرات، أن طفل الجيران قد بال على وردتهم في شرفتهم.. وقررت أن أكون حقيقياً كجدتي وسوف أسمي ابني القادم "حمدان" ولن أجامل وسأجلس جوار المدفأة في الشتاء وأتلو القصائد التي.. رن جرس الهاتف وردت زوجتي ثم صاحت بي: يا سليم.. تعال. فذهبتُ وقالت لي قبل أن أصل: صديقتي أنجبت طفلة أسمتها "كارولين" فالبس بدلتك الجديدة وربطة عنقك البنفسجية، لنحمل إليها باقة الورود وبطاقات التهنئة.
----------------------------------------------------------------
*نشرت في موقع مجلة (فوبيا) الثقافية بتاريخ 3/4/2010م.

http://www.fobyaa.com/?p=1822
*وضمن المجموعة القصصية (هدية القرن القادم) 1995 الأردن.