الثلاثاء، 15 أكتوبر 2013

مهرجان كوستاريكا يُصدر ديواناً لمحسن الرملي / صفاء ذياب

مهرجان كوستاريكا يُصدر مجموعة شعرية لمحسن الرملي
بدأ الشعر باللغة الاسبانية لتخوفه من عمق العربية
 بغداد ـ صفاء ذياب
 وُضعت صورة الشاعر والروائي محسن الرملي على بطاقة دعوة طُبع منها أكثر من مليون ونصف المليون نسخة لتوزع في مدينة سان خوسيه، عاصمة كوستاريكا، كدعوات للجلسة الخاصة التي ستقام له، ويوقع فيها أيضاً مجموعته الشعرية التي صدرت بالإسبانية بعنوان (خسارة رابحة).
البطاقة التي اشتركت في طباعتها وزارة التربية هناك ومهرجان كوستاريكا، كانت مفتتحاً لفعاليات عدّة بين هذه الوزارة وبيت الشعر، ليخصص ريع الإصدارات التي ستوزع في المهرجان لصالح الشباب والطفولة والعمل على تجنيبهم أهوال الحروب وتعزيز محبة السلام والأمل في نفوسهم.
(خسارة رابحة) مجموعة شعرية تضم مختارات من أعمال الرملي باللغة الأسبانية، وقد قامت بإصدار هذا الكتاب جامعة كوستاريكا ومؤسسة بيت الشعر، بمناسبة المهرجان الدولي للشعر الذي يقام هناك في هذا الشهر. إذ سيتم تقديمه وتوزيعه بحضور المؤلف أثناء مشاركته في فعاليات المهرجان إلى جانب عدد من الشعراء العالميين والعرب، وتضم المجموعة أكثر من أربعين قصيدة فضلاً عن نبذة عن المؤلف.
عن كيفية اختيار النصوص وتقديمها في مجموعة منتخبة، قال الرملي في حديث خاص لـ"الصباح" إنه تم اختيار القصائد من مجموعاته السابقة، فضلا عن قصائد أخرى غير منشورة، و"اعتمدت في الاختيار على ما وجدته قد حظي باستحسان واستقبال جيد سابقاً من خلال المهرجانات وردود فعل القراء والنقاد". والأهم من هذا ان الجديد الذي يقدمه الرملي في هذه المجموعة كونها تضم في كتاب واحد قصائد متنوعة ومنتقاة من نصوصه، متنوعة من حيث اشتغالها الشعري، مراحل كتابتها وفي ثيماتها التي تتناول عدة مواضيع كالحرب، الحب، المنفى، الهم الوجودي، ما هو عام وما هو فردي، ما هو تاريخي وما هو يومي.. وغيرها، فضلا عن كونها تحمل شيئاً من روحية ثقافتين مختلفتين.
الرملي قام بنفسه بترجمة هذه النصوص من العربية إلى الإسبانية، حسب ما يقول، "أو بالأصح: كتابتها باللغتين، فبالنسبة لي تمتزج عملية الكتابة والترجمة وتكاد تتم في آن واحد، إذ كتبت بعض النصوص بالعربية أولاً وأخرى بالإسبانية وبعض آخر باللغتين معاً، ثم أقوم لاحقاً بالترجمة من هذه إلى تلك دون الالتزام بترجمة حرفية للنص، وإنما أتدخل فيه وفق ما أجده أنسب ويعبر عما أريده في سياق كل لغة".
وعن مدى التقارب بين النص الأصلي والمترجم، يرى الرملي أن النقطة المشتركة فيهما أنهما يقولان الشيء نفسه ويرسمان الصورة نفسها بلسانين مختلفين، وإن اختلفت الصيغ والحساسية اللغوية بينهما، و"من المفارقات التي اكتشفتها وتعلمتها من خلال تجربتي في الترجمة والكتابة بلغتين، هي أنه وعلى الرغم من أن الشعر في الأصل هو اشتغال لغوي، إلا أن نصوصي أكثر ما تكون ابتعاداً عن الاهتمام أو الاعتماد على اللغة، وكأني أحاول تلمس ما أعتقد أنه شعري بذاته دون التعكز اللغوي، كأني أبحث عن شعر بلا لغة شعرية، وما زلت أراقب تجربتي هذه وأحاول معرفتها أكثر والتعمق فيها".
في الترجمة هناك فسح كثيرة للتأويل، وهو ما يؤكده أغلب المترجمين والباحثين، لكن الرملي يعتقد أن لديه نوعين من النصوص، نوع يقدم نفسه مباشرة ولا يحتاج إلى الكثير من التأويلات ويهتم بإيصال رسالة ما، هو الغالب، والآخر، وخاصة ما يتعلق منه بالهم الوجودي، مغرق بدلالته ورموزه وقابلياته للتأويل بل وبغموضه أحياناً، حين "أحاول التعبير فيه عن لحظات أو أفكار أو مشاعر مستعصية، ويصعب التعبير عنها بلغة منطقية، بحيث أن لدي نصوصاً حتى أنا نفسي لا أفهمها، وإن كنت أستشعر واتحسس أجواءها دون أن أعرف ماهيتها بالضبط، وما فاجأني وأراحني أن ثمة من أعجبتهم هذه النصوص".
ومن المعروف أن لكل ثقافة ولغة نصوصها الخاصة، لكن أن يقدم عربي نصوصاً باللغة الإسبانية، فربما يكون التلقي مختلفاً، فهي كتبت لقارئ، والآن تعطى لقارئ مختلف. الرملي يرى أنه ليس هناك فارق كبير بين المتلقي العربي والإسباني، إلا بما يعتمد على مرجعيات بعض الدلالات في سياقات كل لغة على حدة.
-----------------------
*نشر في صحيفة (الصباح) العراقية، العدد 2944 بتاريخ 14/10/2013م
غلاف الكتاب والصفحة الأولى الخاصة بمعلومات نشره

السبت، 5 أكتوبر 2013

عن رواية: تمر الأصابع / د.إبراهيم الحمد

حول رواية (تمر الأصابع) للروائي محسن الرملي
د. إبراهيم مصطفى الحمد

تعمل رواية (تمر الأصابع) للروائي محسن الرملي على تثوير محاور عدّة من إمكانات الفن الروائي وتقاناته التي تتضافر على التكوين وبناء المعمار الفني، باستثمار شحنات المكان ولغاته المتعددة، ذلك المكان الذي يشير في بعده الزماني- بوصف أن المكان لا يأتي إلاّ مرتبطاً بالزمان- وانتمائه إلى حقب معينة يشير إلى ما يمكن تسميته (الحافز)، وهو هنا الانتقام والثأر، مما يصنع غواية النص باتجاه رسم آفاق تلقٍّ مشحونة بالأسئلة والانتاج والتأويل.
  إنّ كل ما في الرواية من الغلاف إلى الغلاف متهم بالتحريض والتحرّش بالقارئ، ونحن هنا لا نتعامل مع النص الروائي إلاّ على أساس كونه متخيّلاً، إذ إن تلك هي لمسة الروائي، إنها تزييف للحياة كما يقول "فورستر استثمر الروائي بنية العتبات كمحطات تنوير، أضاءت جوانب مهمة من عتمات النص، وأزالت قسماً من أقنعته المراوغة، فالعنوان (تمر الأصابع) في تركيبته الإسمية المضافة، يذهب أيقونيّاً إلى الرمز الجغرافي الذي يتحدد دون أدنى شك بالعراق، والأصابع يمكن عدّها آلة التأشير والاتهام والتهديد، وربما إلفات النظر إلى حالة البعد والاغتراب عن الوطن والتأشير عليه من بعيد، لكن التركيب يمنحها بعداً سيميائياً يتجه صوبَ مناطق عدة/أيروسية –أيديولوجية- نفسية- إنسانية/ ويشكل استراتيجية المتن، ويقترح مناخاً قرائياً يتأرجح بين المتن والعنوان على نحو تناوبي مستمر.
  يعزز هذه الرؤية انقسام الإهداء على فقرتين: الأولى/إلى العراق مهد طفولتي ومهد الحضارات/والثانية /إلى إسبانيا محطتي للسلام بعد طريق طويل مكتظ بالحروب/ مما يشير إلى أن هناك حاضنتين اثنتين للمتن الحكائي هما العراق وإسبانيا وتبرز في ثنايا المبنى الحكائي / الخطاب الروائي/ شحنات كل من المكانين إذ يسجلان تاريخهما ويفرضان لغتيهما على النص، مما يشكل ذلك جزءً من الوعي بالمكان، وإنصاتاً مرهفاً لحضوره وتجلياته ومناخاته السوسيو ثقافية كما يرى ياسين النصير.
  وتعزز عتبة الاستهلال بنية العتبات، ووظائفها التنويرية بتغطية بانورامية، تلخص صفحات المتن كلها في فقرة من سطرين اثنين/ما كنت لأكتبَ قصة أهلي وأفضحهم لولا تشجيعُ أبي لي، وهو يحلّق شعر رأسي في مرقصه المدريدي قائلاً: أكتب ما تشاء فلن يحدث أسوأ مما حدث. هذا العالم جايف (الرواية: ص7.)
  جرى تقديم الشخصيات الروائية بالأسلوب غير المباشر، إذ تقدم الشخصية عن طريق نفسها أو عن طريق غيرها من الشخصيات، أو أن تستخدم دلالة المواقف والأحداث والأقوال لتقديمها، من دون اللجوء إلى الإخبار من قبل السارد أو المؤلف.
  أبرز شخصيتين هما الشخصيتان الرئيستان: (سليم) وهو الراوي، ووالده (نوح) وهو شخصية إيجابية، مدورة، متحركة، ومعقدة، وهو الشخصية المحورية التي تدور حولها الشخصيات والأحداث الروائية برمتها.
تظهر شخصية نوح بمظهرين متناقضين: المظهر الأول هو الشخصية الملتزمة دينياً وأخلاقياً وعُرفياً، ويتحدد هذا الدور في فضاء القرية، وفي المكان الأول /العراق/. أما المظهر الثاني فهو الشخصية المتحللة والمتحولة على نحو جذري، لكن هذا التحلل يكون بدافع براغماتي يكتشفه الابن سليم، بصورة غير مباشرة وعن طريق شخصية أخرى ثانوية، هي شخصية فاطمة المغربية التي يتزوجها سليم فيما بعد.
  إن حركة الشخصيات في الرواية، تصاحبها حركة الأحداث الروائية وانسيابيتها، التي تبدو تلقائية منحتها صفة الواقعية من دون التخلي عن فنيتها وانتمائها إلى عالمها المتخيل، وذلك ما يؤكده(بروب) من أن الوظائف، هي ما يميز الشخصيات وترجع الأهمية في وجود هذه الشخصيات إليها حصراً، وقد لاحظنا التزام الكاتب بعدم الإكثار من ضخ الشخصيات في الرواية، وهو ما دعا إليه النقاد المؤسسين أمثال (داوبتفاير) و(دوان دوات فاير) وغيرهما.
أما الأمكنة الروائية فيمكن تحديدها على نحو عام بمكانين، هما (العراق، وإسبانيا) تدور فيهما الأحداث وتتحرك خلالهما الشخصيات الروائية، ولا يمكن النظر إلى الأمكنة في الرواية إلاّ على أنها أماكن منغلقة إجمالاً، إذا ما عرفنا أن انغلاق المكان وانفتاحه رهينا الوضع النفسي للشخصيات التي تخترقه بحسب (لالاند)، لكن تحميل بعض الأمكنة كل هذ الكم الهائل من الصفات العدوانية والوحشية مثل مدينة تكريت، وعدم إبراز إي جانب مضيء فيها، عمل على خلخلة بنية المكان مما انعكس على البناء الفني للرواية، وأعطى إشارة تكاد تكون واضحة، إلى أن الرواية كتبت بدافع الانتقام والثأر، وربما لأسباب أيديولوجية سياسية، مع ما فيها من جماليات الفن الروائي وتجلياته النصية.
  وعلى نحو عام، فإن الأمكنة الروائية بتحولاتها، وتجلياتها النصية، جاءت واضحة سلسة تسمح بتتبعها وقراءتها، على الرغم من انغلاقها وتأزمها، وذلك يصب في مصلحة الرواية، إذ إن من الأسباب التي ذكرتها الأكاديمية السويدية لمنح "أرنست همنغواي" جائزة نوبل للآداب، عام 1945، أن رواية (الشيخ والبحر) تدور في عالم غير متشعّب.
  وممّا يحسب للرواية أيضاً لغتها السردية الفصيحة، والقريبة من لغة التداول اليومي- من دون الهبوط إلى العامية- وتعدد الأصوات في الرواية، فلكل شخصية صوتها ولغتها الخاصين، فضلاً على كون الحوار قد جاء أيضاً باللغة الفصحى، ولم ترد العامية إلاّ على مستوى المفردات أو الأمثال والمقولات الشعبية والأجنبية، بحسب ما يتطلبه إضفاء الطابع الواقعي والشعبي على الرواية، والاستجابة لمتطلبات الحكي وتثوير شحنات المكان الروائي.
  ولابد من التنويه إلى النهاية المفتوحة للرواية، التي تبتعث الأسئلة الشائكة والملحّة، وتفتح آفاق التلقي على الإنتاج، إذ تنتهي الرواية بسفر نوح وصاحبته (روسا) إلى ألمانيا، على نحو مفاجئ، ويتسلم سليم مفاتح شقة والده بسلسلة بلا رصاصة الثأر التي كان معتاداً على رؤيتها في هذه السلسلة،  ثم يعلم بعد أسبوع من سفر والده أن الدبلوماسي العراقي في مدريد قد نقل إلى برلين.
------------------------------------------------
*ألقيت ضمن الندوة النقدية التي أقيمت حول رواية (تمر الأصابع) في قصر الثقافة في محافظة صلاح الدين/العراق بتاريخ 6/6/2012م
*نشرت في مدونة (الرواية والقصة القصيرة العربية)

الخميس، 19 سبتمبر 2013

الرملي: أريد الحرية والأمان / حاورته: دليلة قدور

الكاتب العراقي المقيم باسبانيا "محسن الرملي" في حوار خاص لـ(الأمة العربية) :

"اضمنوا لي الحرية والأمان ومستعد لخدمة بلدي مجانا
أتمنى  العيش في الجزائر والكتابة عن حارتها الشعبية"
..يجتاحه قلق القصيد.. ينفض صمته فيصب بوحه في الرواية، القصة، المسرح والترجمة..مشتاق يبحر العراق بين أضلعه نزيفا.. تغتاله ذكرى الطفولة والأحبة.. الحرية والسلام.. مسافات أحلام.. يأمل أن يعانقهما في موطنه.. بعد طريق طويل مكتظ بالحروب.. انه الشاعر الكاتب المترجم الأكاديمي العراقي المقيم بإسبانيا "محسن الرملي"، صاحب الحضور المتميز في المشهد الثقافي العربي والغربي.. وحتى لا نضيع الفرصة كان لا بد لنا من توريط مبدعنا في هذا الحوار الذي أجريناه معه بالجزائر العاصمة على هامش مشاركته في فعاليات المهرجان الدولي للكتاب وأدب الشباب..
حاورته: دليلة قدور
*الأمة العربية: بداية ننطلق من عملك الأدبي الأخير "حدائق الرئيس".. وهو ثالث عمل روائي في مسيرتك بعد "الفتيت المبعثر" و"تمر الأصابع".. هل يمكن تصنيفه ضمن الرواية التاريخية الديكتاتورية؟
ـ الكاتب العراقي "محسن الرملي": هي ليست رواية تاريخية بمفهوم الرواية التاريخية، ولكنها رواية تعيد كتابة التاريخ من وجهة نظر إنسانية.. فأكثر شيء دفعني لكتابة هذه الرواية هو استفسار المتلقي العربي والغربي عن سبب الفوضى والخراب الموجودين في العراق رغم أنه بلد غني، ومن ثم حاولت أن أجيب إجابة طويلة تشرح تاريخ العراق على مدى خمسين سنة الأخيرة، وذلك بشكل روائي ممتع.. ومن ثم أردت أن يفهم العراقيين الشباب ما يحدث.. وإبراز بأن الديكتاتور في عالمنا العربي ليس ببطل بل مجرم، حتى العنوان الذي اخترته "حدائق الرئيس" ..أقصد به ما خلفته الأنظمة الطاغية من مقابر جماعية.
*هل يمكن إدراج التيمة الرئيسية في هذا النص على نهج  المذهب الوجودي العبثي؟
في رأيي كل دافع للكتابة يكون هماً وجودياً أولاً.. لكن التعبير عن هذا يتم ضمن تناول حالة معينة تتعلق بالحب، الحرب، التاريخ أو السياسة.. وهي بالأصل مرجعيتها إشكالية وجودية..النقطة الأخرى هي الجانب الإنساني ..أنا عندما أكتب عن ضحية وأقول أني أفهمك..فهذا جانب إنساني يُشعر القارئ المعني بالمواساة.
ـ أتشاطرني إن قلت بأن روايتك تتمة لـ (الفتيت المبعثر) كون أحداثها تدور في عراق الثمانينات في ظل الديكتاتورية وشهادة لما يحدث من تشرد داخل الوطن؟
ـ ليس هذا بالتحديد، ولكن بشكل عام هي تميل إلى السيرة.. تلاحظين، حاولت في كل روايتي طرح إشكالية الهوية.. وهذا أمر معهود عند أغلب الكتاب العراقيين، حتى أولئك الذين عاشوا في المنفى لمدة أربعين سنة، فيكتبون عن العراق..لا أدري متى تنتهي هاته القضية..عموما مواضيع العراق والعرب كثيرة جداً لم تعطها الروايات العربية حقها لحد الآن..الأحداث متسارعة كثيرة وكبيرة..الثورة في الجزائر مثلاً لم يعطى لها حقها.. ويفترض أن تكون هناك أكثر من مليون رواية.. فلكل  شهيد حلم وذكريات وتاريخ وليس مجرد رقم... نحن مقصرين ربما لأن الأحداث أكثر منا وأقوى منا.. وحتى المبدعين عددهم قليل قياسا بأمتنا العربية.. في هذا المقام أدعو كل شخص أن يكتب روايته وينشرها في المدونة، فالأمور أضحت سهلة في عصر التكنولوجيا، اذ تم التنازل عن الشروط الفنية العالية.
*في نظرك المناخ متاح لأي كان حتى يبدع !
ـ نحن الأدباء نريد من الناس أن تكتب، حتى ننتقل إلى الكتابة عن الفنتازيا والأحلام، ونتخلص من العبء..نحن نشعر بالمسؤولية دائماً.. الواقع كما هو لا يطاق.. ونحن محتاجين للخيال.. فهو مسألة وجودية ومساحة راحة.. نرجو من الله أن يرحمنا من الواقع المرير حتى نستعيد إنسانيتنا...
*تعتقد بأننا نحتاج الى أدب استعجالي؟
ـ في اعتقادي عبارة أدب استعجالي هو تصنيف جارح.. لأن الأديب يفعل ما يستطيع، صحيح على حساب الشروط الفنية، لكنه قدم شهادة. في الأمم الأخرى هناك أصناف من الروايات بين الرومانسية، البوليسية، التجريدية، الفروسية.. وغيرها.. فمن حق القارئ عندنا أن يجد ما يمتعه.. المشكلة عندنا أن لدينا تصور خاطئ يكمن في وجود رواية واحدة، ويجب الكتابة على نسقها.. وهذا ظلم للكاتب والقارئ معا.. فأنا مع أن تتنوع الكتابة.. فالكم يولد النوع.. وأنا مع أن يكتب الجميع.. لأن هذا يعني مزيدا من القراء.. فالذي يكتب يضطر لأن يقرأ على الأقل خمس روايات على الأقل.. ومن ثم كلما زاد الكتاب زاد القراء.. والأرض الثقافية تسع الجميع.
*شاركت مؤخرا في جائزة البوكر بروايتين.. (تمر الأصابع)  و(حدائق الرئيس).. كمثقف، ماذا تمثل الجائزة عندك؟
ـ أنا شخص إيجابي مع كل الجوائز سواء كانت صغيرة أو كبيرة.. موجهة أو غير موجهة.. لأنها بالنهاية تخدم الإبداع.. فالمشاركة مثلاً في الجوائز العالمية يضيف للكاتب الدعاية، وهذا أمر مشجع. ومن ثم، أرى أن الجائزة هي معنوية قبل كل شئ للتغلب على الإحباط، ويجب أن تكون بعيدة عن روح التنافس.. لأن التنافس يكون في الرياضة العضلية وليس في الأشياء الذهنية..لأنه لا يوجد عمل يشبه عمل أخر.
*من خلال قيامك بترجمات، كيف ترى مستوى تلقي المثقف الإسباني للآداب العربية المترجمة؟
ـ بالنسبة للترجمة، أرى بأن الغرب مقصرا جدا في ترجمة آدابهم إلينا مقارنة بما نترجمه نحن من آدابنا الى لغاتهم وحتى أعمالهم الى لغتنا..أبرر ذلك بتعاليهم على ثقافتنا.. فالأمريكان مثلاً، عندما احتلوا العراق حسبوا تكلفة كل شيء مادي وغفلوا المعرفة الثقافية، مما جعلهم يتساءلون- لماذا لم يستقبلنا الشعب بالورود ونحن نخلصه من الديكتاتور- وعليه أقول أن المثقف الغربي عموما بدأ اهتمامه مؤخراً بالآداب العربية المترجمة، ولكن ليس بذات الهمة التي يوليها المثقف والمترجم العربي.
*باعتبارك منحاز للجزائر كما ذكرت لي، هل وجدت نصا جزائريا يقترب من روحك.. وتريد ترجمته الى اللغة الاسبانية؟
صحيح، أنا منحاز للجزائر، ومتابع للآداب الجزائرية منذ زمن فهي أحد روافدي لعشق الجزائر، أحب كثيرا أعمال بوجدرة والطاهر وطار رحمه الله، وأصدقائي واسيني الأعرج، سمير قسيمي، بشير مفتي، خالد بن صالح، لميس سعيدي، عبدالوهاب بن منصور.. وغيرهم.. ما أتمناه ليس ترجمة نص جزائري، بل أن أعيش في الجزائر لمدة سنتين وأكتب بنفسي عن حارتها الشعبية.
*هل يمكن القول بأن محسن وجد السلام الداخلي؟
ـ بصراحة نعم،  فالمكان الذي يضمن لي الأمان  والحرية أرتاح فيه، ولحد الساعة اسبانيا وفرت لي ذلك.. فأنا فعلاً أشعر بالسلام الذي لم يكن مضموناً لي في بلدي.. وعلى ما يبدو أنني  سأكمل عشر سنوات أخرى خلال الفوضى الجديدة بعد أن قضيت عشر أثناء الديكتاتورية السابقة، وعشر في المرحلة التي أعقبته.
*حلمك..
ـ حلمي أن أكتب رواية عن الحب، خاصة من جانب المرأة العراقية التي كانت دوما ضحية قمع الرجل والظروف.. تساؤلات كثيرة أريد طرحها..أين كان الحب عند المرأة في أوقات الحصار وقصف المدن؟ كيف عبرت عنه المرأة في ظروف لا تسمح لها بذلك؟..
ما أتمناه كذلك، أن تُضمن لي الحرية والأمان في بلدي، ومستعد أن أخدمه مجاناً في الجانب الأكاديمي والإبداعي.. وهذا حلم يقاسمني فيه الكثير من العراقيين المغتربين.
------------------------------------
*نشر في صحيفة (الأمة العربية) الجزائرية بتاريخ 16/9/2013م.


الثلاثاء، 13 أغسطس 2013

محسن الرملي راض بازدواجية هويته/ حاوره: خالد بيومي

الكاتب العراقي محسن الرملي :
اختيار المنفى هو أهون الشرور رغم قساوته
راضٍ بازدواجية هويتي وأتمنى لو أنها أكثر تعدداً
حاوره: خالد بيومي
صحيفة (روز اليوسف) المصرية، بتاريخ 13/8/2013
الكاتب العراقي محسن الرملي مبدع من مبدعي العراق الذين دفعوا ثمنا غاليا ومؤلما للديكتاتورية التي حكمتهم لفترة طويلة، غادر دياره لمنفى إجباري بعدما أصبحت مجرد الحياة فى الوطن غير مضمونة، رغم سنوات عمره التي أهدرها الانتقال لمجتمع جديد والتأقلم معه قانونياً وثقافيا، يرى أن تجربة الانفتاح والاختلاط والتبادل الثقافي سواء المباشر أو الناتج عن الترجمة من أهم مقومات بناء الحضارة الإنسانية.. محسن الرملي الذى يكتب الشعر والقصة والرواية والمسرح إلى جانب عمله الأكاديمي، حدثنا فى هذا الحوار عن مميزات التنوع الثقافي واللغوي كما يراها، وعن رؤية الغرب لثورات الربيع العربي ورد فعله، ورؤيته هو الشخصية وتأثيرها على المستقبل السياسي للعراق ...
 فى هذا الحوار:
 *لماذا كانت الهجرة من العراق إلى إسبانيا؟
ـ لأن الحياة لم تعد تطاق هناك، بل أن مجرد الحفاظ على الحياة صار مهَدداً، وخاصة بعد أن تم إعدام أخي الكاتب حسن مطلك بتهمة الاشتراك في محاولة لقلب نظام الحكم عام 1990 كما أعدمت الدكتاتورية واعتقلت العديد من أقاربي وأصدقائي وأغلقت كل الأبواب في وجوهنا من حيث فرص العمل والعيش الكريم والآمن وتضاعفت المتابعات والمضايقات الأمنية الخانقة والمُذلة، كل ذلك وسط ظروف محيطة قاهرة من حصار اقتصادي وقمع لكل الحريات وسلب لأبسط الحقوق وخراب متواصل في ظل دكتاتورية شرسة، فكان قرار الهجرة واختيار المنفى هو أهون الشرور رغم قساوته ومرارته في البداية، فهاجرت أولاً إلى الأردن وبعدها بعامين إلى إسبانيا.
*ماذا أعطاك المنفى وماذا أخذ منك؟
ـ أعطاني الحرية والأمان ومعرفة الآخر المختلف وثقافته عن قرب، وأخذ مني دفء العائلة والأهل والأصدقاء والأحلام الأولى وتصوراتي عن الوطن، كما أخذ من عمري أعواماً طويلة تمت التضحية بها من أجل ترتيب حياة جديدة وما يتعلق بأساسياتها من تأمين مصادر للعيش وأوراق قانونية والتكيف مع ثقافة مختلفة وغيرها.
*تكتب الشعر والقصة والرواية والمسرح والعمل الأكاديمي.. كيف توفق بين هذه الاهتمامات؟
ـ ربما العكس هو الصحيح، أي أنها، ومن خلال تنوعها، هي التي توفق بيني وبين نفسي المتعددة في ظروفها واهتماماتها وقلقها وهمومها الوجودية والواقعية والنفسية، أشعر بأنها تشبهني من حيث أنها تبدو متعددة في الظاهر بينما هي في الأصل واحد، أي أنها كلها (كتابة)، لذا عادة ما أفضل تصنيفي كـ(كاتب) بدل القول شاعر أو قاص أو روائي أو مسرحي أو أكاديمي.. وأنا أثناء الكتابة لا أجد إشكالية في هذه التصنيفات الفنية الإجرائية فيما يتعلق بالأجناس الكتابية وذلك بحكم بداهة أن المضمون أو الموضوع هو الذي يختار أو يفرض الشكل الكتابي الذي يناسبه.
*أين تجد نفسك أكثر؟
ـ أجد نفسي أولاً في القراءة لأنها جزء أساسي من فعلي اليومي منذ أن عرفت القراءة وبفضلها بدأ تعرفي الحقيقي على العالم ورافقتني ولازالت بشكل يومي وسترافقني العمر كله حتى النهاية، أما الكتابة فهي ليست من سلوكي اليومي وإنما لها أوقاتها المتباعدة ومتطلباتها الظرفية والمزاجية الخاصة. أما عن الأجناس، فأنا أجد نفسي في السرد أكثر وبشكل أخص في الرواية، على الرغم من قلة إنتاجي فيها. ذلك أن الرواية تمنحني مساحة أكثر من الحرية والتعبير عما يعتمل في نفسي من هواجس وأفكار وذكريات وقلق واحتجاج ونقد وأحلام ورؤية وغيرها، وتتيح لي مشاركة الآخرين والتعبير عنهم، ومن بعض ما أجده فيها أيضاً: التخفيف أو (التطهير) وفق وصف أرسطو القديم لوظيفة الفنون التعبيرية. ورغم صعوبة الكتابة وما تتطلبه من بذل جهد ووقت إلا أنها تتيح لك أن تعيش المتبقي من جهدك ووقتك بشكل نفسي وإنساني أفضل وأعمق.
*تكتب بالعربية والإسبانية.. ألا يشكل ذلك ازدواجا في الهوية؟
ـ نعم هو كذلك، ولكنني تكيفت مع هذا الازدواج أو حتى التعدد والانشطار أحياناً بحيث أصبحت أحبه وصار هو الوجه الأبرز لهويتي أو شخصيتي، كان هذا الأمر يقلقني في البدايات لكنه الآن أصبح يريحني ويمثلني أكثر بعد أن أدركت بأن موضوع (الهوية) الذي صدعونها به في الأعوام الأخيرة يقترب من نهايته كموضة، وأنه كان قائماً على أوهام في أغلبه وأن الواحدية الثقافية أو النقاء الثقافي أو العرقي ما هي إلا أوهام لا أساس لها من الصحة وتتعارض مع ما هو إنساني صرف، وأكثر من سوّق لهذه الموضوعة كان مدفوعاً لأسباب سياسية واقتصادية أو حتى عنصرية. أنا راض بازدواجية هويتي ومنسجم معها، بل وأتمنى لو أنها أكثر تعدداً مما هي عليه الآن.
*تُرجمت أعمالك إلى لغات أجنبية.. كيف ترى دور الترجمة في الحوار بين الحضارات؟
ـ لا شك أن دور الترجمة عظيم في خدمة البشرية جمعاء وكل حضاراتها، وليس هناك أي وجود لحضارة تستحق أن تسمى (حضارة) ما لم تستفد من الحضارات الأخرى ومن الترجمة عنها وإليها. إن أهمية الترجمة لا تقل أبداً عن أهمية وظيفة اللغة الخاصة التي نتحدث بها لنتفاهم مع القريبين منا، فهي بمثابة اللغة التي نتفاهم بها مع البعيدين وكلما زادت الترجمات بين اللغات والثقافات كلما زاد واغتنى الحوار وبالتالي الفهم والتفاهم بينها، وأنا عادة ما أحلم وأدعو لإيجاد وزارات للترجمة أسوة بوزارات مثل الخارجية والتربية والمواصلات والاقتصاد وسواها.
*كيف ينظر الغرب إلى الربيع العربي؟
ـ في البداية هزته المفاجأة، ثم الدهشة ثم الإعجاب بحيث أن كبرى صحفه قد كانت تتصدرها كلمات عربية في تلك الأيام مثل (حرية) و(تحرير) و(إرحل) وغيرها، والغرب هو الذي أطلق تسمية (الربيع العربي)، وبما أن الغرب عقلاني فسرعان ما تجاوز انفعالاته الأولى وراح يحلل ويطرح الأسئلة ويدرس كل ما يتعلق بهذا الربيع من أسباب وكيفية وأبعاد واحتمالات مستقبلية من مخاوف وآمال، وبالطبع تأتي على رأس أولوياته مسألة النظر إلى مصالحه وما يخدمه هو مما يحدث.
*هل تعتقد أن الربيع العربي أثر بالسلب على القضية العراقية أم ساهم في تسليط الضوء عليها؟
ـ أعتقد بأنه أضرها أكثر مما نفعها، فقد همشها إعلامياً من جهة ومن جهة أخرى زاد من تكالب القوى الداخلية والخارجية اللاعبة في العراق لفرض المزيد من سبل التحكم وقمع انتفاضته وتجيير البلد بمجمله وفقاً للمعادلات الإقليمية التي ينتجها هذا الربيع العربي لمصلحة هؤلاء اللاعبين وليس لمصلحة العراق. علماً بأن الشعب العراقي كان أول المنتفضين ضد الدكتاتورية وذلك عام 1991 وأوشك أن يسقطها لولا تدخل القوى الخارجية للإبقاء على النظام فدفع الشعب العراقي ثمناً باهضاً ولازال، ومع ذلك فقد حقق الشعب الكردي من يومها هدفه بالتخلص من هيمنة السلطة الدكتاتورية في المركز واستطاع بناء ذاته إلى حد بعيد وهو ما نرى ثماره الإيجابية الآن. إن العراق ينظر وينتظر، ويده على قلبه، ما سوف يتمخض عنه الربيع العربي في البلدان التي شملها التغيير لأن ما سيحدث فيها سيؤثر عليه سلباً أو إيجاباً.
------------------------------
*نشر في صحيفة (روز اليوسف) المصرية، العدد 2501 بتاريخ 13/8/2013م
 


الثلاثاء، 6 أغسطس 2013

قراءة في رواية " تمر الأصابع "/ محمد بوحبيب

قراءة في (تَمر الأصابع) لـ محسن الرملي من العراق
بقلم: محمد بوحبيب
قسم الكاتب نص الرواية ستة عشر فصلا، وسرد فيه المأساة العراقية من: ظلم الحكم، والعلاقات المتوترة بين سلطة هذا الحكم، وفئات الشعب المتسم بتعدد الأعراق، والمذاهب، وحتى الديانة.. وأظهر كيف أن الحكم عمل على تدجين الجميع، وسكبهم في قالب، صنعه على المقاس مثل كثير من أنواع الحكم ـ خاصة في البلاد العربية ـ  ونتج عن ذلك تمرد وعصيان، أحيانا، وهجرة ”جماعية”، اتقاء شر السلطة.
(في النص تناول الكاتب نوعين من الهجرة: هجرة داخلية، تمثلت في هجرة آل مطلق، إلى ما يشبه جزيرة، هربا من عار الاسم الذي أطلقته المخابرات على أفراد القبيلة” القشامر”. هذا الاسم الذي يعني الإهانة والاستخفاف.. وهجرة إلى الشتات، وقد خص بها الكاتب إسبانيا وألمانيا..).. وهو ما نجده مع البطل الراوي “سليم مطلق”، وأبيه “نوح مطلق”.. اللذين حزم كل منهما ـ بعدما أخبر الأول أخته استبرق ـ وأخبر الثاني زوجته، وخيرها بين استقلالها والزواج، أو البقاء في عصمته.. وركب كل منهما المجهول، إلى أي بقعة من الأرض. وحدث أن التقيا في مدريد ـ إسبانيا.
وتميز النص بحدة الصراع، إن في المفاهيم، وإن في العلاقات الاجتماعية: ما حدث بين قبيلة مطلق والسلطة، وبين أطياف أخرى والسلطة..
لقد صرح الكاتب محسن الرملي، في جريدة (الخبر) مع الأستاذ حميد عبد القادر، أنه لا يمكن أن يكتب المرء عن الحب في العراق؛ لأن العراق، التاريخ لم ينل حقه من الهناء والهدوء. ولكنه فعل؛ ربما يريد ـ كمواطن عراقي ـ أن يكسر الجليد الذي جثم على الأوضاع في هذه الناحية.. أولاً تحت الحكم السابق؛ لمدة غير يسيرة. ثم لسبب أكثر إلحاحاً، وهو الوضع الذي آل إليه عراق الحضارة والتاريخ، بعدما تكالبت عليه الأطماع من كل جانب..
وقد شخص عاطفة الحب بين أفراد العائلة ـ القبيلة: الارتباط الوثيق بين الجد والأحفاد. علاقة “نوح بأبيه” وتقديسه إياه.. علاقة “سليم” بأبيه ”نوح”.. علاقة سليم بأهل عمه ـ خاصة ـ بعالية ـ بنت العم. على عادة العرب..
ثم شخص الحب ـ على غير صلة الرحم ـ أي الحب المبني على التعلق بطرف آخر.. بدءا بعلاقة سليم بعالية بنت العم.. وبشكل فيه من الإنسانية، أكثر من الاشتهاء الجنسي.. خاصة بين “نوح” و“روسا” الإسبانية.. وبين البطل الراوي وفاطمة المغربية.. وبين نوح وفاطمة..
ولكن أكثر ما يوحي إلى الحب البدوي ـ القبلي، ذاك الذي صوره بين سليم وعالية (حب جارف متأجج، ولكن مخفي عن جميع الأفراد، إلا إستبرق).. وبين “صراط” و” إستبرق".. وعلى الطريقة الكلاسيكية يصطدم الحب دائماً، بعوائق العرف والدين.. وهو ما حدث لعلاقة سليم وعالية، إذ كانت نهايته الغرق في النهر ” على طريقة بول وفرجيني”.. وهذا لا يعني بالضرورة، أن الحب بين سليم وعالية، قد فشل وانتهى، بقدر ما يعني أن غرقه، وسيلة ونوع من التوابل للحفاظ على تأججه وحياة جذوته في نفس سليم.. وكم من مرة جعلته المواقف يسترجع تلك القوة من التوقد والحنين، إلى عالية..
لماذا اختار الكاتب لروايته العنوان "تمــر الأصــابع":
القضية تبدأ من صبا البطل الراوي ” سليم”، لما كان يلاعب ابنة عمة ـ حبيبته عالية، ويتدرب معها على ممارسة طقوس الحب؛ فكان يطلي أصابه بعسل التمر، وتقوم عالية بدورها بمص أصابعه ولحسها.. ثم تدهن هي أصابعها، وحلمتي نهديها بالتمر، ليقوم هو بمصها.. فكانا يرتفعان إلى أعلى مراتب اللذة والتوحد.. ” أخذت عالية تفتح أزرار ثوبها، أو تخلعه، ثم تطلي نهديها بعصير التمر، ثم تستلقي على قفاها على الرمل، مغمضة العينين، وتاركة لي لعقهما، مصهما، حبهما، ولها التأوهات والرعشة).. ص69. ولما التقى أباه في مدريد، وجده يفعل نفس الشيء مع صديقته وحبيبته “روسا”.. خاصة وأبوه قد تم إخصاؤه بفعل التعذيب من طرف شرطة الحكم في العراق.. وبذلك يسترجع، كذلك لماذا كان الجد، يحرص على توفر كيس تمر دائماً في البيت.. فتساءل:” قادني إلى التساؤل عن إصرار جدي على توافر كيس تمر في بيتنا.. فهل جدي مثلنا هو الآخر ربما نحن في الأصل شخص واحد..” ص145..

عن أبطال النص:
الأب نوح: أبو البطل الراوي.. نوح هو ابن مطلق.. رجل ريفي.. يعيش على تقاليد القبيلة.. وعلى شهامة الموروث الثقافي.. لم يتقبل أن يمس هذا الراكب سيارة المرسيدس شعرة من بنته “إستبرق”؛ فأشبعه ضربا، ليكون مصيره بسبب ذلك السجن… ثم طلق حياة البادية في العراق، وهاجر إلى إسبانيا ـ بمساعدة إحدى السائحات؛ وهي صديقته روسا ـ ليستقر في مدريد؟ ولكن كيف؟؟ لقد حلق شاربه، وصبغ شعر رأسه، في خصلتين: حمراء وصفراء.. وعلق في أذنه قرطا من حلقتين، على طريقة الغجر.. وصار يسير أحد المراقص والملاهي، بمساعدة صديقته.. وهو الذي كان يطيع أباه، طاعة عمياء ـ لا يستطيع حتى أن ينظر في عيني أبيه ـ"لم يرفع عينيه إلى وجه أبيه أبدا، ولكنه تمسك بالرصاصة الثالثة، وحولها ميدالية مفاتيح”.ص18.. وأطلق على ملهاه اسم (ملهى القشامر) لغرض مضمر في نفسه.. لقد تغير الأب في نظر البطل الراوي، ولم يستطع أن يقتنع بأن هذا الرجل الذي أمامه، هو أبوه حقا؛ الذي جر القبيلة كلها، لمهاجمة الشرطة في محافظة ” تكريت”. بسبب أن أحد الوجهاء، قد لامس مؤخرة ابنته “إستبرق”.. وها هو يغازل فاطمة المغربية أمام ابنه.. يصفعها على مؤخرتها تماما، مثلما فعل ذاك
إذن لا بد أن يكون هناك سر في هذا التغير ـ تساءل سليم عدة مرات ـ لقد اتخذ لنفسه عشيقة، وهذا أمر جلل بالنسبة لمن نشأ في محيط تحكمه تقاليد صارمة، مثل التي نشأ فيها نوح. كان البطل الراوي يكتشف ـ أباه الجديد ـ كما يقول عن ذلك من خلال، تردده على المرقص، الذي يسيره، وأبى إلا أن يسميه باسم القرية التي أنشأتها القبيلة، بعدما رحل بها الجد، هربا من الظلم ـ مرقص القشامر ـ وكل هذا لا يمثل سوى المظهر.. أما الجوهر، فهو حفاظه الشديد على خصوصياته التراثية والثقافية.. فقد فرض على الفتاة ” فاطمة المغربية، أن تحفظ سورة البقرة كاملة، حتى يقبل بتوظيفها في مرقصه.. ويمتحنها مع نهاية كل شهر، باستظهارها، فإن أخطأت خصم من راتبها، وإن قرأتها من غير خطأ، أكرمها بزيادة في راتبها.. واستطاع أن يحتل مرتبة حسنة، بين أنواع البشر، رواد المرقص.. وصاروا يتبركون باسمه، لأنه في الحقيقة اسم نبي.. وهو يقول في كل مرة: الله هو الذي اختار لي هذا الاسم.. ولا يتورع مع ذلك أن يغازل صديقته أمام الجميع، وكذلك فاطمة المغربية.. هو هنا إذن من أجل الثأر.. الذي أقسم عليه بالمصحف، أمام والده، وأكد ذلك لصديقه الكردي.. لقد صار خصمه ملحقا بسفارة العراق في إسبانيا.. وهو السر الذي طالما تساءل عنه سليم، وحاول ـ فيما بعد جاهدا ـ ثنيه عنه..
البطل الراوي: سليم بن نوح بن مطلق… أصغر أبناء نوح.. شارك القبيلة في الهجوم على محافظة الشرطة، في تكريت؛ لتحرير أبيه نوح.. ونال من الشرطة نصيبه من التعذيب والإذلال.. خرج من المخفر بهوية جديدة..( وهو ما يوحي للقارئ، أن الحكم الشمولي، لا يترك أي وسيلة، ولا أي فرصة، إلا ويستغلها ويوظفها، في التأثير على الرعية، وقولبتها حسب قواعد أيديولوجيته ).. هاجر مع قبيلته، تحت توجيهات جده وقيادته (هجرة داخلية) ثم فيما بعد، هاجر إلى إسبانيا.. يشتغل سائقا لسيارة توزيع الصحافة، ويمارس الكتابة.. هو إذن واحد من المشردين من بلادهم، بفعل الطغيان، مثله مثل أبيه، وغيرهما..
الجــد: مطلق. الأب العضوي لنوح مطلق.. وكذلك الأب الروحي له ولأبنائه، وأفراد قبيلته.. يمارس السلطة المطلقة (بالارتكاز خاصة على الدين).. يبدو ذلك جليا، في طريقة اختيار الأسماء للمواليد الجدد في العائلة (يفتح المصحف على أي صفحة، ويضع أصبعه عشوائياً على كلمة من كلمات القرآن الكريم، لتكون اسماً لهذا المولود أو ذاك: نوح.. سليم.. صراط. إستبرق..). وكذلك تعامله مع زوجاته: زوجته الأولى قطع لها أصبعها، لمجرد أنها أشارت به إليه.. والثانية لم يعرف أحد كيف تخلص منها.. أما الثالثة، وهي جدة البطل الراوي، فهي التي منحته كل أولاده.. وبقي أثره السلطوي يتبع نوحاً وسليما، إلى ديار الغربة..
 .. فضح وسائل القمع التي وظفها الحكم: من وسائل القمع التي اعتمدها النظام ـ الحكم، تغيير أسماء الأشخاص، وألقابهم العائلية؛ لأن  الأسماء والألقاب، هي جزء من شخصياتهم وتراثهم، وتغييرها هو محو لتلك الشخصية، وطمسها.. فاسم عائلة البطل الراوي: “مطلق”، صار “قشمر” في بطاقات هوية جديدة، وزعت على أفراد القبيلة، عند خروجهم من الحجز، وهم يحاولون تحرير نوح.. وقشمر ـ بلسان البطل ـ تعني في العامية العراقية الاستخفاف والإهانة. أما في اللغة الفصيحة، فتعني القصير الغليظ،( فكلا المعنيين يعنيان الإهانة، وإلغاء إنسانية الإنسان..).
 ..الرفض الجماعي للسلطة ونظام الحكم: ويتجلى ذلك في اتصال الجد بشيوخ القبائل، على اختلاف أعراقهم ومذاهبهم، ومعتقداتهم، من: أكراد وتركمان، ويزيديين ومسيحيين.. نظرا لكون الظلم، قد مس جميع الأطياف (على مقولة : عدو عدوي صديقي).. ويكفي الظلم ظلما، إخصاء الناس ” مثلما حدث لنوح أبي البطل ـ الراوي”..
 ..عادة الثأر: قال نوح: ” سأكتب على جبهته بالوشم أو بالكي “قشمر”.. ثم قال:” أخذ البدوي ثأره بعد أربعين عاماً.”..
 .. احترام المقدسات وهيبتها ورهبتها. ومن ذلك أن قضى البطل الراوي، ليلته مرتعبا من كابوس، رأى فيه نفسه يتقلب في جحيم جهنم، عقابا له، لأنه تجرأ ونال قبلة حارة من محبوبته.. وما عاشه نتاج لوعيد جده، وترهيبه، لمن يسمح لنفسه بالخروج عن العرف. ” كنت أشعر بوجود الله، مشرفا على عقابي… وصوت جدي، يدوي غاضبا: إنه يستحق، لقد حذرتهم جميعا.” ص67..
توظيف الاسترداد “الفلاش باك”. بلسان نوح، يعود بالقارئ إلى العلاقات بين أفراد العائلة. وبلسان سليم. يسترجع الأيام الخوالي مع صديقته عالية.. وما عايش من مظاهر السلطة مع الجد وأبيه، وسائر الأفراد، وغيرها من المواقف.. وأكثرها تأثيرا حالة الندم التي انتابت الجد بسبب قطعه أصبع زوجته الأولى..
توحي شخصية البطل الراوي ” سليم” إلى شيء من سيرة ذاتية.. للكاتب ـ محسن الرملي ـ إذ إنه ـ حسب ما فهمت من تصريحه لجريدة الخبر ـ قد مارس نظم الشعر، ثم انتقل للرواية.. وهو بطله، سليم يشتغل سائقا لسيارة توزيع الصحافة، ويمارس الكتابة الشعرية والقصصية.
...أنهى الكاتب النص نهاية سعيدة على الطريقة الكلاسيكية؛ بأن أجج الصراع بين البطل وأبيه، نظرا ـ ربما ـ لتضارب النظرة نحو الأحداث، فالأب “نوح” أقسم لأبيه “مطلق” على المصحف، على أنه سيثأر لشرف العائلة من ذلك الفتى، الذي رقته السلطة إلى رتبة سفير، بأن يدخل له الرصاصة، في مؤخرته.. والابن يرى ذلك من العادات القديمة، التي يعاقب عليها القانون المعاصر.. ويجب التغاضي عنها وهجرها.. ثم وجه الأحداث مع الفصول الأخيرة، إلى النهاية التي يريدها لها: بأن سلم الأب مفاتيح المرقص لابنه سليم، وعزم على الرحيل إلى ألمانيا بعدما خطب له صديقته فاطمة المغربية.
(ويتساءل القارئ هنا هل هذا استشراف من الكاتب، بأن يسلم الكبار مقاليد الحكم، لأنهم ولدوا لزمان غير زمانهم..).. ومن جانب آخر وجوب تغيير الأفكار القديمة، بالتي تتواءم مع العصر.. وقد عزم البطل الراوي مع صديقته المغربية، تحويل المرقص مطعما عربيا مختصا في تقديم طبق الكسكسي المغربي.. (وهو نوع من المصالحة مع الذات، والعودة إلى الأصول..).
ــ نرجو أن يكون استشراف الكاتب مُجاباً، بأن تتصالح جميع الأطياف المتصارعة في العراق، وتعود إلى حضن عراق الحضارة والتاريخ…
-----------------------------------
*نشرت في (أبوليوس) في يوليو/تموز 2013 الجزائر.