الثلاثاء، 5 يناير 2016

الفتيت المبعثر: أنموذج مصغّر للمجتمع العراقي/ جاسم الحبجي

الفَتيت المُبَعثَر : المبالغة في التكسير والتقطيع
أنموذج مصغّر للمجتمع العراقي

جاسم الحبجي
الفتيت المبعثر، هي رواية للروائي العراقي محسن الرملي صدرت في طبعتها الثانية عام 2014 عن دار مسعى للنشر والتوزيع في المنامة البحرين وهي حائزة على جائزة اركنسا الأمريكية عام 2002. في إهدائه للرواية يهديها الكاتب إلى.. روح شقيقه حسن مطلك لأنه، كما يقول، بعض من هذا الفتيت المبعثر، في أشارة إلى عنوان الرواية، والفتيت هو الشيء المقَطع إلى أجزاء صغيرة جدا وهو المبالغه بالتكسير أو التقطيع إلى أجزاء صغيرة جدا، أما كلمة المبعثر وهي الجزء الثاني من عنوان الرواية فهو المفَرق، فالعنوان هو تفريق المكَسر إلى أجزاء وتفريقه، وقد ربط الروائي بين العنوان والإهداء، فاعتبر أن أخاه الأديب حسن مطلك جزء من هذا الفتيت المبعثر، وإذا ماعرفنا أن المُهدى إليه العمل هو حسن مطلك 1961-1990 كاتب ورسام وشاعر من الأصوات الأدبية الحداثية التي ظهرت في ثمانينات القرن الماضي وأنه أُعدم شنقا في 18-7-1990 لاشتراكه في محاولة لقلب نظام الحكم في العراق، ستتضح لنا الصورة بأن المقصود من العنوان هو الشعب العراقي الذي أصبح فتيتاً مبعثرا نتيجة للدكتاتورية والحروب والسجون والإعدامات...
 استطاع الروائي محسن الرملي من خلال روايته (الفتيت المبعثر) أن يسلط الضوء على ما يجري في العراق، خلال حقبة الثمانينات، من خلال روايته لما يجري في إحدى العوائل العراقية، حيث جعل منها حالة روائية مصيره لما يحدث في المجتمع العراقي واستطاع أن يجعل كل فرد من هذه العائله نموذجاً لما يجري في المجتمع العراقي وانعكاسات ذلك سياسة الدولة وتفاعلها معها.
 يبدأ الروائي واصفا نفسه كإحدى الحالات العراقية المراد بيانها في الرواية بقوله "غادرت متبعا خطوات محمود باحثا عنه حالما بأن نفعل شيئا ما ونصبح رجالا يستحقون الاحترام كي تبحث عنا النساء مثل وردة ابنة عمتي التي تنقلت بين الازواج حتى انتهت تحت اسماعيل الكذاب" ص9
كانت الهجرة إحدى سمات المجتمع العراقي بعد الحروب الطاحنة التي شهدها العراق خلال عقدي الثمانينات والتسعينيات ولم يكن كل مهاجر يعرف عنه أهله شيئا فهناك من يذهب ويختفي ولا أحد يعرف عنه شيئا يقول الروائي "لم يكن محمود يعني شيئا لأحد حين كان في القرية ولما غادرها وغادر البلاد متسللا عبر الشمال الى الخارج حيث لاخبر وحيث ينساه الجميع تماما باستثناء والدته ،،المكروة المهضومة،، لم يكن غياب محمود يعني شيئا لأحد مثلما لم يكن وجوده شيئاً، اتبعت طريقة فانتهيت مثله" ص10... كانت الهجرة تعني الاغتراب والقطيعة مع الوطن والنسيان "ها أنا وحيد أجنبي وسط ، الهواتف مقطوعة والرسائل لا تصل دائما وليست ثمة أخبار عن أهلي في الصحف الإسبانية.. هل شُفيت أختي ربية؟ ماذا حدث لابن عمي المحاصر في الجنوب؟ كيف يعيش جارنا الذي قُطعت ساقة في الحرب؟ أين أصبح أصدقائي؟"ص11.. لكن الروائي يسترجع لنا ذاكرته ما حل بالعراق من خلال قريته الصغيرة "وحدي هنا من يعرف كل شئ هناك في قريتي الساكنة على شاطى دجلة في موضع أول شجيرة سِدر نبتت صدفه وقيل بأنها تضئ ليلا لذلك سرقتها الحنافيش، لكن قريتي مازالت على ضفة وجبل مكحول على الضفة المقابلة حيث ترتفع قلعة أشور أعلى من كل شيء وفيما بينهما وسط النهر جزيره صغيرة مكتظة ببنات آوى والذئاب وأعشاش طيور الدراج بين أشجار الطَرفة"ص12... يبدأ الروائي بوصف الصباح في قريته "صباحاً، إفطارنا من زبدة بقرتنا المبقعة، التي أهداها جَدّي لأمي عند زفافها، الممزوجة ببعض من زبدة البقرة الهولندية الوحيدة في القرية عند خالي البيطري. صباحا، يتم تلاقي الأمهات على تنانير الخبز، يتبادلن الأخبار ويعدنَ لبثها على عوائلهن مع أرغفة الخبز الساخنة وأقداح الشاي: عمشة قالت وهي تنشر فراش نومها المبلل على سطح الدار: لقد بال زوجي عليّ الليلة أيضا. ثم تضيف على لسانه؛ بأن الأطباء لم ينفعوه ولا الدراويش. ابن عدلة العرجاء وجد ابنة العريف عبد الرحمن مع ابن سعيد العطار ليلًا في الجزيرة، والشيخ صالح يأمر بتزويجهما وستر عرض الناس، وإبراهيم المغني يؤلّف عنهما أغنية يرددها في الأعراس فيكرمانه عنزاً بجدييها. حمار وضحة اقتلعَ وتِدا ربطه بأسنانه، فوجدَته صباحا يأكل الشعير في معلف حمارة غازي عند آخر بيوت القرية، جوار المقبرة. حسيبة ركلت قاسم ليلاً على خصيتيه، ولذلك لن نستعيد اليوم مذياعنا الذي تركناه عنده بالأمس ليصلحه. أثناء تناولنا للعشاء: ثريد البامياء والطماطم والبصل، نعرف أن بيت العجاري قد تعاركوا مع بيت الفهد حول دورهم على الساقية لري القطن، وسعدي أخذ الأولاد الصغار إلى الوادي ليفسد أخلاقهم؛ حيث يجري لهم مسابقات القذف في العادة السرية، يكافئ الفائز بمنحه مؤخرته لمساء كامل يفعل بها/فيها ما يشاء، وإسماعيل تنبأ بأن القرية ستَستقبل غدًا جثثًا أخرى لخمسة من أبنائها قتلوا في الهجوم الأخير على الجبهات. فرحان يفكر بالزواج من عائشة ـ امرأة رابعة ـ يجدد بها فِراشه، وقد صبغ شيب رأسه ولحيته بالحناء حال سماعه بمقتل زوجها في الحرب، وحليمة أنجبت ولدًا، أسمته عبد الصمد، أخذته إلى الطهارة" ص13
هكذا كان الروائي يصف قريته وما يحدث فيها "الأبواب في القرية مفتوحة والكلاب لا تنبح إلا على الغرباء. للأشياء هناك أسماء خاصة، الحيوانات والتلال والأواني والأحجار والغيوم. للناس أسماء كثيرة، منها ما يُطلق بعد حادثة ويشتهر، أو يقال مزحة ويستمر، منها ما يظهر فجأة ويختفي عند حلول غيره، منها ما يُطلق رمزًا ويصبح واقعًا، ومن الناس مَن ينسى الناسُ اسمَه حين يدمنون على مناداته بابن فلان أو فلانة أو زوج فلانة العجّانة" ص14
اختار الروائي نماذج من قريته ليصف لنا ما يحدث في العراق بطريقة ميكروسكوبية مصغرة. ثمة "شاب كردي يرسم على حيطان وأكواخ الدواب قلبا يخترقه سهم كلما لمح في الدار التي يرشها فتاة جميلة وكانت وردة ابنة عمتي اجمل من فتيات الإعلان عن الصابون فوسع الكردي من دائرة القلب ثم أنزل سهماً طويلاً من أعلى السقف.... ابتسمت ورده لراسم القلب ودخلت تعد الشاي" ص18-19
شخصية قاسم الذي امتاز بهدوء طبعه إلا أنه تزوج ابنة عمه سليطة اللسان القادرة بشتائمها على تهجير مدينة، ذلك أنه لم يستطع مقاومة بياض ذراعها التي "رَآه فجاة ذات فجر مفاجئ حين ايقظته مثانته فنفض عنه غطائه وهرول خارجا باتجاه المرحاض" ص20 فابصر ابنة عمه من خلف السور الواطئ وهي الأخرى تهرول باتجاه المرحاض فأبصرا بعضهما وابتسمت. كانت تلك أول مرة يرى فيها ذراعاً عاريا لامرأة فصعقه بياض اللحم.... أيعقل أن يكون لون اللحم أبيض لهذا الحد؟؟!ص21... "لا يدري كيف مَر النهار ولكنه كان نهاراً أبيض كبياض ذراع حسيبة التي استعاد صورتها آلاف المرات.. آه ياحسيبة لم أكن أعلم أنك تكنزين كل هذه الأنوثة وراء استرجالك المخيف. كان يخافها مثل الجميع، الذين يتحاشونها، إن لم يكن تجنباً لبذائة لسانها فلتجنب تخميش أظافرها الذئبية" ص22 لقد كان قاسم يريد ذراع حسيبة تحديداً وليس حسيبة، ثم بعد ذلك يأتي الكتف، الشَعر وتاتي حسيبة. كانت تشتمه حينما يكونان وحدهما، أما أمام الناس فتتصنع انقيادها له ولا تناديه إلا يا أبو شيماء أو أبو إبراهيم.. هذا ما صرح به قاسم نفسه بعد مايقارب خمسة وعشرين عاماً من زواجهما، فسألته مالذي جعلك تتورط معها كل هذه السنين؟ قال: إنها رائعه يا ابن خالي، إنها امرأة دائمة الاشتعال، دائمة التحفز، دائمة الاقتتال، دائمة التوهج، دائمة الخضرة وأنا فنان أحب المغامرة ولا أجد لذة الحياة إلا في تلك الأجواء الخطرة بجمالها" ص24-25... الحاج عجيل عُرف بثلاث علامات، اثنتان منهما لا يشبهه بهما أي كان بالعالم، فعدا نظارته الطبيه، كان ينفرد ببحة صوته، تذكر السامع بإبرة القنفذ التي انغمست ببلعومه، ثم هوسه الوطني الذي يكاد يكون عبادة، بل هو كذلك، كما صرح به بصوت خطابي عال في مجلس قهوة القرية حين استل ذراعه من عباءته ووقف على ركبتيه بصلابة فيما انتصب إصبعاه علامة النصر بلا دراسة ص27 تلكأت في بعلومه جملة قوية كادت تخنقه لأنه حار بها تعبيرا ولذلك صرخ بها مهتزا حين شعر بأنه قد وجدها فصاح: اني أعبد وطني، اني أعبد وطني" ص28. المُلا صالح، مؤذن الجامع وإمامه، الذي كان نقيضاً لشخصية عجيل، فقبل أن يكرر للمرة الثالثه "اني أعبد وطني" قطعها عليه المُلا صالح بنهوض مباشر وصرخة غضب، زاجراً مزمجراً، سربت لحيته بالرذاذ: اخرس، أعوذ بالله منك ومن وطنك الذي تعبد... وبنبرة أهدا ردد مرة أخرى أعوذ بالله، لا اله إلا الله، أستغفر الله.. إنها وثنية جديدة والعياذ بالله" ص28-29
لقد حفلت الرواية بشخصيات استطاع الروائي من خلالها رسم الخطوط العامة للمجتمع العراقي في عقد الثمانينات؛ قاسم الذي غرق في تعلم الخط العربي وأخذته جماليات فنه حد ابتكار ما أسماه بـ(الخط القاسمي)، والذي هَرب من الجيش وأُعدم في وسط ساحة القرية،ص31، سعدي الذي كان لديه جوابان فقط حين يُطلب رأيه، إبتدءا بطعم الشاي وبلا انتهاء عند الحرب أو الدين، فهو إما يقول "هذا الشيء حلو" أو "غير حلو" وكنت آنذاك أسمي طريقته في إبداء الرأي هذه، التي يشترك فيها معه ملايين الناس، بانه نقد نسائي وأحيانا نقد حريمي، أما أحمد فقد أنقذته وظيفته من السَوق إلى الحرب، حيث كان قاضياً ص31-32 ومحمود كان صغيراً منسياً لم يبلغ سن الحرب آنذاك في حين أن عبود لم يعرف عنها إلا ماهو ضبابي ومقاطع من أناشيد الحرب، التقطها في لحظات الصحو، وكانت أمه تحمد الله أحيانا لأنه خلقه من بطنها مجنوناً، وأحياناً أخرى تلوم الله على ذلك، ثم تسارع إلى الاستغفار دامعة العينين ص33
ان رواية (الفتيت المبعثر) هي رواية اجتماعية – سياسية، سَلَّطت الأضواء على المجتمع العراقي خلال عقد الثمانينات، وهو عقد الحرب العراقية الإيرانية، اتخذ الروائي من إحدى القرى ومجتمعها ومن إحدى العوائل أنموذجاُ مُصَغراً، استطاع من خلاله تسليط الأضواء بمنهج أدبي سلس ممتع على ما كان يجري من مآسي اجتماعيه وسياسية في المجتمع العــراقي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في صحيفة (الزمان) العراقية، العدد 5306 بتاريخ 4/1/2016م.

ليست هناك تعليقات: