الأربعاء، 20 أبريل 2016

صندوق العروس / د.محسن الرملي

تراث
صندوق العروس
د.محسن الرملي
من بين كل الأشياء الموجودة في البيت، ما من شيء كان يثير فضولي ويطلق العنان لخيالاتي في طفولتي أكثر من صندوق معدني صدئ كان موضوعاً فوق خزانة الملابس في غرفة نوم والديّ، فلم يكونا يفتحانه إلا بمناسبات محددة، عادة ما تكون لحل أزمة ما، وكأن فيه سر حل كل الأزمات المستعصية، وعندما يفتحانة تكون تلك مناسبة احتفالية بالنسبة لنا، ونكاد ننتظر أن يخرج منه المارد هاتفاً: "شبيك لبيك". كانت تخرج منه روائح عطور قوية لا نشمها إلا نادراً في ثياب أمي وبمناسبات قليلة. بحذر شديد، يحاولان إبعادناعنهما حين يفتحانه، وفيما لو صعد أحدنا إلى هناك مشاكساً، فسيكون التحذير الأول والأهم، ألا يسقط الصندوق، وليس تحذيراً من سقوط الطفل نفسه... وما من مرة دخلت فيها إلى تلك الغرفة، حتى وإن كنت شديد الجوع لأطالب أمي بالطعام، إلا وذهبت نظراتي إليه وإلى قفله الكبير الذي صدئ هو الآخر. ذلك الصندوق، كان بمثابة سر تودع فيه أكثر أسرار الأبوين خصوصية، وبالتالي أسرار العائلة.. ومن ثم أسرار الكون كله وفق رأسي الصغير آنذاك.
كبرت، صرت فتى، وكان من أبرز أحلامي أن أتوصل إلى أسراره. بعد موت أبي أصبحت أمي أقل حرصاً عليه، بحيث كانت تترك قفله مفتوحاً أغلب الأحيان بلا اكتراث، فتسللت إليه ذات ظهيرة ينام فيها الجميع القيلولة إلا أنا، فتحته واستقبلتني تلك الرائحة، مددت أصابعي بارتجاف، حريصاُ على عدم تغيير ترتيب أي شيء فيه، ومما وجدته هناك؛ العديد من الصُرر، فتحت إحداها فكانت بضعة أشياء فضية من زينة أمي التي لم أرها تضعها في حياتي أبداً: سوار، قرطين، "خزامة" قرط أنف، خاتم ومكحلة. حزام صوفي وبعض مناديلها، أدوات حلاقة أبي، عقال قديم، القرآن، دفتر مدرسي فيه خطب الجمعة التي كان يكتبها بنفسه. كنت مضطرباً ولم أكمل استكشافاتي، ثم انتهزت لاحقا فرصة سهرة شتائية كانت أمي تحدثنا فيها عن بعض ذكرياتها مع أبي بحنين. سألتها عن الصندوق. صمتت طويلاً وشرد ذهنها ناظرة إلى البعيد، ثم راحت تحدثنا عنه بحب فائق. إنه صندوق عرسها الذي أهداه لها والدها وكان الوحيد الذي حملته من بيته إلى بيت أبي وفيه كل ما تملك من ماديات الدنيا. كان لها وحدها ومع الوقت صار والدي يشاركها في وضع الأشياء الخاصة به ومنها المال المُدَّخَر، وأنها باعت مالديها من قطع ذهبية حلاً لأزمات. حدثتنا عن صندوق الجدة الذي كان من خشب ومطرزاً بالمسامير الدائرية، وعن صناديق أخرى ساحرة لمجايلاتها.
لاحقا عرفت أن هذا الأمر كان شائعاً في بلداننا منذ قرون وله اسمه المختلف في كل منها: صندوق العرس، صندوق العروس، صندوق المَهر، صندوق الأمل، صندوق الأحلام، صندوق السِت، صندوق المَبيت، صندوق الزهاب، المندوس.. وغيرها.
في زيارتي الأخيرة لبلدي وجدتهم قد حولوا ذلك الصندوق إلى حوض لعلف البقرة، تأملته كثيراً ودمعت عيناي، فكرت طويلا بتاريخ وتقاليد هذا الصندوق السحري وكم ضم وحمل من أحلام البنات، وبتلك الأغاني والقصائد التي تغنت به، وبعادات كل منطقة وفنون صناعاته، وتمنيت لو أنه تقليد لم ولن ينتهي، وأن يكون لزوجتي واحد مثله في غرفة نومنا، وأن أهدي ابنتي واحداً أعده مع نجار محترف قبل أشهر من زواجها على أجمل ما يكون.
ولكن، يبدو لي، بأنه مع مرور الزمن، وكثرة متطلبات وحاجيات العرائس لم يعد يستوعبها هذا الصندوق، فتحول إلى حقيبة صغيرة خاصة بالمجوهرات وأدوات الزينة ضمن حقائب أخرى أكبر وآثاث يقتضي نقلها شاحنة أو شاحنات. فكرت بأن صندوق العرس، ربما لم ينقرض نهائياً، وإنما ظل يصغر ويتم اختصاره حد الرمزية، حقيبة تصغر وتصغر إلى أن أنتهت اليوم بعلبة صغيرة في راحة اليد تحتوي على خاتم الزواج وحسب.
ليتنا، على الأقل، ندون في كتب مصورة وأفلام وثائقية كل ما يتعلق بهذا الصندوق السحري الجميل من عادات وتقاليد وأغاني وأصول وأشكال وحكايات، حفاظاً على تراث جميل رافق أرواح كل أمهاتنا وجداتنا عبر القرون، بل وأن تتم استعادة تقاليده بشكل ما أو الاحتفال به عبر متحف، مهرجان، معرض أو حتى يوماً خاصاً به، نبتكر فيه تقليداً بأن يهدي كل رجل للمرأة التي يحبها، زوجة أو أم أو بنت أو حبيبة، صندوقاً جميلاً وخاصاً.. حتى وإن كان لا يحتوى سوى على رسالة تضم كلمة واحدة: "أحبكِ" أو "شكراً".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في مجلة (تراث) الإماراتية، العدد197 سنة 2016م.

ليست هناك تعليقات: