الأحد، 11 سبتمبر 2016

عن: حدائق الرئيس / حسين جمعة

حدائق الرئيس .. التاريخ الذي نَحتهُ المظلوم
حسين جمعة
مازلت أحتفظ بنصيحة ذهبية لأحد أساتذتي عندما نصحنا ذات يوم ونحن نقرأ في مكتبة الجامعة، كنّا في بدايات قراءاتنا وقتها، وكل شخص فينا يهوى اختصاص معين ليبدأ قراءته فيه رغم اختصاصنا الأكاديمي المعروف، فكانت كتبنا ذوات اختصاص (الفلسفه، الاجتماع، الدين، الأدب) وكل منّا يحسب نفسه إله القراء العرب، وهذه حالة يُصاب فيها أغلب القراء المبتدئين، وكنّا إذا ما ٱعجبنا بنص أو سطر شَرعنا بتلاوته للآخر.. وكأن بيننا سباق التقاط الإقتباسات الجميلة. كانت نشوة القراءة تزداد فينا كلما قَلب أحدنا ورقة من الكتاب الخاص به، وفي غفلة سَمعنا صوت خفيف وكأنه همس لأستاذ مادة التاريخ يَطلب مساعدة أمين المكتبة لمعرفة الكتب التي جُلبت يوم أمس من شارع المتنبي لرفد مكتبة الجامعة بكتب جديدة، تهامسا فيما بينهم، وعَرفنا بأن أمين المكتبة قد إعتذر للأستاذنا لعدم جاهزية إدخال الكتب الجديدة قسم الأرشفة والترقيم المكتبي بعد. اقترب الأستاذ بعد أن لَوح بيديه كعلامة تدل على السلام من دون كلام يصدرة، سَلمنا بدورنا وأزاح أحدنا كرسيه ليجلس بينما هَم أحدنا ليجلب كرسي خامس، حيث كراسينا أربعة فقط، سأله أحدنا عن كتاب الأستاذ الجديد الذي  دفعه مؤخراً إلى المطبعه ولم ينشر بعد، ليجيب أستاذنا بعد أن عَرف بأننا قد تركنا ما في أيدينا لنغلق كتبنا مع إبقائها أمامنا دلالة على أننا قراء وأصدقاء للمكتبة، بعد أن سألنا؛ ماذا تَقرأون، وعَرف فيما بعد بأن كُتبنا هذة من أول الكتب التي نَقرأها خارج كتب الاختصاص في الجامعة، قال: "على القارئ المبتدئ أن يبدأ قراءته في معرفة تاريخ بيئته، مدينته، بلده، بقدر استطاعته وكفايته لمعرفة بلده وإن لم يستطع فليقرأ عن الثلاثين أو الأربعين سنه الماضية ليعرف ويفهم  ما حَوله، فمن لا مَاضي له لا مستقبل ينتظره، وإن كان ماضياً مأساوياً". خرج الأستاذ وخَرجنا معهُ، مرة يطلق المزاح فنضحك ومَرة نَطلقها فيبتسم.
تَخرجتُ ونسيتُ ذكريات كثيرة فلا مرادف لذَكرها، فقد تَفرق كل شيء.. أما نصيحة الأستاذ فقد طويتها مع ذكريات الجامعة وعُدتُ الى قراءتي فيما أحب، إلى أن جاء اليوم الذي تذكرت كل كلمة قالها الأستاذ وكأنه جالس أمامي... فقبل شهر واحد تقريباً، حدثني صديقي المغربي عن بَلده بمختصر مفيد، وسألني إن كنت أعرف شيئاً عن المغرب، فكان جوابي له اني بحكم قراءتي أعرف المغرب من خلال قصص محمد شكري فقط، ولا أعرف معلومات أخرى غير أسماء المدن ولهجتهم الغريبه التي لا أعرف ترجمتها مطلقاً، سألني بعدها صديقي المغربي سؤالاً صدمني فيه حين قال: كلمني عن العراق؟
أخذت أسرد له الأحداث التي يمر بها العراق، بعد أن تطرقت الى معلومات لثورة العشرين والعائلة المالكة ثم عبدالكريم قاسم ثم أحمد حسن البكر ثم صدام حسين ثم تطرقت لحرب الخليج الأولى والثانيه وأحداث ما بعد السقوط، ذكرتها بسطور موجزة. راسلني بعدها ليسأل عن غزو الكويت وعن حرب إيران وعن بطولة صدام حسين، وعن سنة العراق وشيعته... إلخ، سألني عن الكثير، ربما بحكم تَصدُرنا الأول في نَشرات الأخبار. استذكرت بعد سؤاله مباشرة نصيحة أستاذي الذهبية وكأنني أسمعها لأول مَرة، وحققت ما أردته وأرادهُ أستاذي حين اشتريت صدفة رواية للكاتب العراقي محسن الرملي، بعنوان "حدائق الرئيس" فغصتُ في بحر همومها لأبكي تارة، وألعن وأشُتم أخرى.. وكأنني مخبول كإسماعيل الأبله حين رأى رؤوس أبناء قريته في حَيرته... كانت الرواية عبارة عن عراق مصغر يتكون من ثلاث أشخاص "أبناء شق الأرض".
أبطال الرواية: عبدالله كافكا، طارق المُندهِش، إبراهيم قِسمة، كل واحد منهم كان تاريخاً لحاله، تاريخٌ عراقي بقلم أمين ذكر ما علينا وما لنا؛ من حرب الخليج الأولى ومعاناة الجنود الأحياء والجنود الأسرى وما لحقهم وجرى عليهم في سجون الأسر، ومن جبروت زجهم أحياء في طريق طويل بعد الانسحاب من الكويت، ومن غزو النُهاب لأملاك الكويتين، إلى حدائق الرئيس حيث يعيش كملك في جنته، وشعبه يبكي ألم الجوع المسرطن...
الرملي في روايته، ذكر بعين الباحث الأمين تقلبات الأشخاص في نظام الحكم في شخصية زوج قسمة إبنة إبراهيم، وفي الأشخاص الموالين للجمهورية الإسلاميه والذي يطلق عليهم بـ "التوابين"، وفي شخصية قسمة...
الرواية تاريخ لثلاثين سنة ماضية، كتبها الرملي كشاهد حقيقي على الأحداث، فقد عايشها بمُرها وألمها ومَوتها وحُزنها.

كَتبَ أحدهم مُعلقاً على الرواية "يجب أن تُدرَّس في المدارس ضمن حصة التاريخ العراقي".. نعم، فهي تستحق ذلك وأكثر، فالأحداث التي يكتبها المظلوم تُنحت في ذاكرة التاريخ، وما (حدائق الرئيس) إلا تاريخ خَطّهُ مظلوم عن مظلومين.
*حسين جمعة: كاتب من العراق.

ليست هناك تعليقات: