الثلاثاء، 19 ديسمبر 2017

حوار مع محسن الرملي / أجرته: ميسون شقير/ضفة ثالثة

حوارات
محسن الرملي:
واقعنا الدامي لطّخ حتى أحلامنا وخيالاتنا 
تصوير: خالد كاكي

حاورته: ميسون شقير
ذاهب دائما لترجمة نفسه، مثلما هو يترجم آداب الآخرين إلى لغة عمرتنا، ليقرأها أناس عمروا أرواحنا، أو ما يزالون هناك يعيشون في أوطان هدمت فينا. ذاهب لترجمة الأحمر في جراحنا إلى كل ألوان الأرض، علّ سماء ما، في زمان ما، وفي غفلة من الأسود الذي يرفرف في سماواتنا، تبتدع يومًا قوس قزح. ذاهب بالرواية إلى الماضي وهو يمسك يد المستقبل ويشده من شعره عقابا على الحلم، وذاهب بالرواية أيضا إلى مستقبل يمسك يد الماضي ويشده من قلبه كي يتجرأ دائما على الحب.
هذا هو محسن الرملي، الكاتب العراقي الذي يسكن في مدريد من سنوات لكنه لم يزل يعيش في بغداد، الكاتب الذي ولد في شمال العراق عام 1967 ويقيم في إسبانيا منذ عام 1995، والحاصل على الدكتوراه بامتياز في الفلسفة والآداب من جامعة مدريد، مع درجة الشرف، والذي يكتب باللغتين العربية والإسبانية. عمل في الصحافة كاتبًا ومحررًا ثقافيًا منذ عام 1985 وله عشرات المواد المنشورة في الصحافة العربية والإسبانية والأميركولاتينية. تَرجم العديد من الأعمال الأدبية بين اللغتين العربية والإسبانية، وله ما يزيد على العشرين إصدارًا تنوعت بين القصة والشعر والمسرحية والترجمات والرواية. ومنها روايته "الفتيت المبعثر"، التي فازت ترجمتها الإنكليزية بجائزة أركنساس 2002، وروايتا "تمر الأصابع" و"حدائق الرئيس"، اللتان تَرشحتا ضمن القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية 2010 و2013، ونالت الترجمة الإنكليزية لـ"حدائق الرئيس" جائزة القلم الدولي 2016. وكذلك رواية "ذئبة الحُب والكُتب"، التي وصلت للقائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد للكتاب 2015. تُرجمت بعض أعماله لأكثر من لغة، وشارك في العديد من المهرجانات والمؤتمرات الدولية. وهو شريك في تأسيس وإدارة دار نشر ومجلة "ألواح" الثقافية الفكرية في إسبانيا منذ عام 1997، وعضو في هيئة تحرير مجلة "آركيترابا" الكولومبية المعروفة المتخصصة بالشعر، وفي الهيئة الوطنية لتنظيم مهرجان طليطلة الدولي للشعر. يعمل حاليًا أستاذًا في جامعة سانت لويس الأميركية في مدريد.
هنا حوار خاص معه:

الآداب والفنون ثروة الشعوب المعنوية
*تقول دائما بأنه يجب على الشعوب أن تتعامل مع الأدب بشكل تراكمي لكي تتعلم من نفسها، 
برأيك لماذا هذه القطيعة في الأدب العربي والتي جعلتنا نخسر الكثير؟
ـــ الأدب هو مرآة وذاكرة الشعوب والأفراد، ومن خلاله يمكن معرفة الذات والآخر، وقطيعة شعوبنا مع آدابها واضحة ومتشعبة، فنحن لا نحترم الآداب ولا نقدرها حق قدرها في التعليم والصحافة والحياة اليومية في الشارع أو في البيت، لذا لدينا تصور مشوه وناقص عن ذاتنا ونقص في ذاكرتنا فنكرر الأخطاء ذاتها. السلطات عندنا لا تعرف شيئاً عن الأدب في بلدانها ولا تتابعه، بل تعتبره شيئاً مزعجاً، وتسلط رقابات بوليسية وأمنية جاهلة على الفنون، لا نرى تماثيل لمبدعينا في شوارعنا ولا شوارع ومؤسسات تحمل أسماءهم، كذلك القمع والنفي والاضطرابات المتواصلة أبعدت المبدعين عن التواصل المباشر مع المتلقين، إضافة إلى وجود أكثر من قطيعة داخلية بين الحقَب وبين الأجيال الأدبية ذاتها، وفي رأيي لا بد من ترميم كل ذلك كي يكون قاعدة صحيحة وصحية للوعي العام للأفراد والشعوب. الآداب والفنون هي ثروة الشعوب المعنوية، لذا لابد من المحافظة عليها ومراكمتها وليس إهمالها أو بعثرتها وتهميشها.  
*شهادة الدكتوراه التي نلتها في إسبانيا، كانت حول تأثير الثقافة العربية والإسلامية في الكيخوته، ما هي أبرز النقاط التي اعتمدت عليها في هذا البحث، والتي برهنت من خلالها على هذا التأثير للثقافة العربية في الأندلس وفي آلية صنع شخصية الدون كيخوته لثربانتس؟
ـــ لا يمكن فهم أبعاد أي عمل فني بشكل جيد إلا بمعرفة طبيعة المحيط الذي ولد فيه، وكان لابد لي أن أدرس كل ما يتعلق بالفترة التي تمت فيها كتابة الكيخوته، تاريخياً وأدبياً وسياسياً وغيرها، وتتبع أدق تفاصيل حياة مؤلفها ثربانتس، والتي من بينها أعوام أسره في الجزائر، وهي أكثر حدث أثر في حياته وأعماله، وبما أن أغلب وأهم الدراسات التي كتبت عن الكيخوته، منذ القرن السابع عشر وإلى اليوم، هي دراسات ووجهات نظر غربية وتعتمد على مصادر غربية، سعيت لأن أستخدم مصادر الضفتين الشرقية والغربية، فكانت هنا الإضافة وهنا الجديد، في التأويل وتوسيع الفهم لهذا العمل. لذا تناولت فيه مختلف تأثيرات الثقافة العربية والإسلامية، من حيث اللغة والدين والبناء السردي والموروث التاريخي وتتبع أصول الشخصيات والأقوال والأفكار.. فكانت النتيجة مهمة فعلاً باعتراف لجنة التقييم والمختصين بالدراسات الثربانتيسية.
*ككل مغترب، نعاني من انشطار الهوية وحالة فصام دائم بين مرجعيتنا الثقافية الأولى، الوطن الذي ربانا ثم أكل قلوبنا، وبين ما نعيشه في بلاد غريبة أوتنا وحمت حقنا في الحياة.. ما تأثير هذا التشظي على ما يمكن أن تقدم من أدب، وهل هي ميزة إضافية إلى جانب كونها جرح نازف؟
ـــ نعم، هو ميزة وجرح في الوقت نفسه، ففي رأيي أن الاغتراب هو حالة أو ميزة مرافقة لكل مبدع، حتى وهو في بلده وفي أحضان أسرته، ذلك أنه يختلف في رؤيته وفهمه لذاته وللعالم، عمن يحيطين به، وما اغترابه الفيزيائي اللاحق ومغادرته لموطنه الأول، طوعاً أو كرهاً، إلا لكونه غير راض عن الحال ومعارِض له، وفيما يتعلق بهم الوطن، هو جرح، لأنه لم يستطع أن يكون هو ذاته وكما يريد وينمو ويبني ويحقق أحلامه في مكانه الأول، وثمة شعور دائم ومسؤولية تجاهه مهما ابتعد عنه. فها أنا أعيش خارج العراق قرابة الربع قرن ومع ذلك فإن كل كتاباتي عن العراق.
*في روايتك (حدائق الرئيس)، والتي صنفتها الغادريان ضمن أفضل عشرة كتب في عام 2017 تحدثت عن المقابر الجماعية التي كان يقيمها صدام لمعارضيه، هل هي، أخيرا، انتقام لمقتل أخيك الكاتب والشاعر على يد الطاغية؟
ــــ لا، فلا توجد في نفسي ولا في تفكيري نية أو فكرة (الانتقام)، وإنما هي وصف وتعبير صارخ عن الألم الذي عانته كل الضحايا في العراق بسبب بطش الدكتاتورية الطاغية والحروب والحصار، سعيت فيها لتقديم صورة بانورامية وتاريخية، نوعاً ما، عما مر به العراق في العقود الأخيرة. وهذه الرواية هي أقل رواياتي اعتماداً على سيرتي الشخصية، لذا فهي الوحيدة، حتى الآن، التي لم تُروى بصيغة المتكلم، الضمير الأول (أنا)، فيما بقية روايتي تتغذى من سيرتي وتجربتي الشخصية، وفي آخرها، رواية (ذئبة الحب والكتب) استخدمت اسمي الصريح، واعتمدت شخصية أخي حسن مطلك كمحرك للأحداث، ولكن كمحرك للبحث عن الحب والثقافة والفن والجمال والحرية وليس محركاً للانتقام من شيء أو من أحد. 

الصدق ميزان الكتابة الحقيقية
*ألا تخشى من أن يبقى ما نقدمه من أدب أسيراً لما حملناه من ثقوب في أرواحنا.. وأن يبقى أدباً محروقا؟
ـــ أحياناً قليلة نعم، ويحز في نفسي ألا نقدم للقارئ إلا ما هو تراجيدي وحزين ومرير، ولكن من جهة أخرى فإن ميزان الكتابة الحقيقية هو الصدق، والكاتب يكتب عما يعرفه بما في ذلك أحلامه وخيالاته ذاتها، لكن واقعنا الدامي قد طغى ولطخ حتى أحلامنا وخيالاتنا، وأنا ككاتب يشغلني الألم الإنساني أكثر مما يشغلني الفرح، وأعظم الأعمال الأدبية هي تلك التي كانت بذرتها ومنبعها الألم، بما فيها (الكيخوته) التي يتصورها أغلب الناس بأنها رواية للضحك. في رأيي أننا عندما نرسم سواد العالم فسيوف يكون فيه لأي نقطة بيضاء قيمة وسطوعاً أكبر، ونحن عادة ما نبث هذه النقاط البيضاء وسط السواد بشكل جمالي باعث على أمل ما وسط الخراب مهما يكن. كما أن قيامنا بالتعبير عن همومنا وأوجاعنا يعيننا على التخفف نوعاً ما من وطأتها على أذهاننا وأرواحنا، مما يجعلنا بعدها أكثر تخففاً وتجدداً وقوة في مواجهة صعوبات الحياة وأكثر بهجة بمسراتها الصغيرة.
*هل رواية (تمر الأصابع) هي اعتراف بالانشطار الذي يحيا فينا ونحيا فيه؟
ـــ نعم، وهي أكثر رواياتي تناولاً لهذه المسألة، قائمة على الثنائيات والازدواج في كل شيء، كتبتها خلال معاناتي في سنوات اغترابي الأولى، ومن خلالها استطعت أن أعرف الكثير عن نفسي وأسباب تلك المعاناة، وبالتالي فإنها أحدثت تحولاً عميقاً في حياتي ورؤيتي وشخصيتي، فبعد أن شخصت مكامن هذا الانشطار في ذاتي بين الشرق والغرب والتقاليد والحداثة، الدكتاتورية والحرية والوطن والغربة وغيرها.. استطعت التصالح مع نفسي بعد أن فهمتها، ولم يعد تعدد ألوان هويتي يقلقني كما كان في السابق، بل على العكس، صار يعجبني ويسعدني وأشعر بأنه يمثلني أكثر من مجرد كوني بهوية واحدة محددة.
*في (ذئبة الحب والكتب) انتصار حقيقي للحب في أي مكان وأي زمن، هل تعتقد بأنه ما زال بإمكاننا المراهنة على الحب كي ينقذنا من كل هذا الموت؟
ـــ نعم فالحب واحد من أهم وأكبر الألغاز الإيجابية في الحياة، والدعوة إليه هي دعوة للخير ضد الشر، دعوة للجمال ضد القبح، دعوة للحلم والأمل ضد اليأس، ودعوة لنُصرة التفاهم والتسامح والتقارب والتعايش، وفي هذه الرواية أشير إلى أن أغلب مآسينا ناتجة عن سوء فهم الآخر، ابتداء بسوء استعمال اللغة ذاتها.. ولو كان الأمر بيدي لاستبدلت حتى مجلس الأمن الدولي بمجلس الحُب الدولي.
*الشعر يمسك يدك في كتابك (أوراق بعيدة عن دجلة) وكأنك أسيره الحُر.. كيف ذلك؟
ـــ أوه، ما أجمل وأدق تعبيرك هذا! (أسيره الحُر)، نعم أنا كذلك بالفعل في علاقتي معه، فأنا في الأصل مُدمن على قراءة الشعر يومياً، وأكتبه منذ أن تعلمت الكتابة، لكنني تأخرت كثيراً جداً بنشره، وأول قراءة ونشر لقصائدي كان بالاسبانية، بعيداً عن أعين اللغة العربية الشعرية بامتياز.. وكنت ولازلت أتردد وأرتبك عندما أقول عن نفسي بأنني أكتب الشعر، لما له من مهابة وعظمة في نفسي وذائقتي، لذا كان يتسلل عنوة في نصوصي السردية الأولى تلك، ولكن بعد أن صرت أنشره وأعترف للأخرين بأنني أتعاطاه، صارت نصوصي السردية أقل شعرية وأكثر سردية، بل وحدث ما يشبه التحول المعاكس، حيث صارت حصة النثري تتمدد أكثر حتى إلى النصوص الشعرية.. ذلك أن خزين الحكي في دواخلنا عما عشناه ولازلنا نعيشه صار يفيض ويطفح. 

أثر الأدب الإسباني في الأدب العربي المعاصر كبير
*ما أجمل وأهم ما وجدته في الأدب الاسباني، وخاصة الحديث؟ وكم برأيك أثرت الأسماء الاسبانية العملاقة، مثل لوركا، على الشعر العربي المعاصر؟
ـــ وجدت الكثير جداً من الجمال، ومنذ أن تعلمت اللغة الإسبانية وأنا أتعامل مع الأدب المكتوب بها  بالمستوى نفسه، أي ليس أدب إسبانيا فقط وإنما آداب بلدان أمريكا اللاتينية بمجملها وآداب أبنائها المهاجرين خارجها ولكنهم يكتبون بالاسبانية، ومن الأشياء التي أنتبهت لها وأعجبتني وأثرت في كتابتي، على سبيل المثال: امتزاج التجربة والجانب الشخصي البحت للكُتاب بمواضيع ولغة كتبهم، الاهتمام بالحي الحالي أكثر من الاهتمام بالتاريخي، التنوع والجرأة والحرية والتمرد أحياناً، والمبالغة باعتبارها من سمات الفن للفت الانتباه.. وسمات أخرى كثيرة أعتبرها جميلة، أما عن لوركا وألبرتي والأسماء الأخرى، وخاصة من جيل الـ 27 الشعري وأثرها في الشعر العربي المعاصر، فهو كبير وواضح وثمة دراسات عنه، وأغلب الشعراء عندنا كتبوا قصائداً عن لوركا أو أو مهداة له أو ذكروا اسمه فيها، كذلك تأثيرات كبار الشعراء بالاسبانية الآخرين أمثال بابلو نيرودا وأوكتافيو باث وخوان رامون خيمينيث الذي ألف العقاد عنه كتاباً بعد نيله لجائزة نوبل بعنوان (شاعر أندلسي وجائزة عالمية)، كما أن تأثير الرواية كان كبيرا منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي حيث بدأت ترجمات روايات ماركيز ويوسا وفوينتس وغيرهم، فأنا نفسي مثلاً، قد قررت دراسة الإسبانية بعد قراءة ترجمة (مائة عام من العزلة) بدافع أن أقرأها بلغتها الأصلية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشر في ملحق (ضفة ثالثة) الثقافي، صحيفة (العربي الجديد) بتاريخ 18/12/2017 لندن
محسن الرملي وميسون شقير / مدريد 2017 ــ مكتبة ماريو فارغاس يوسا

ليست هناك تعليقات: