الخميس، 29 مارس 2018

الثأر والعدالة في رواية محسن الرملي / فرح الراجح


الثأر والعدالة وما بينهما
قراءة في رواية (تمر الأصابع) للكاتب محسن الرملي
 
 فرح محمود الراجح
ـــ لندن 
الثأر والانتقام موضوعان استأثرا باهتمام الأدب العالمي منذ ازمنة قديمة. فمن منا لا يتذكر رواية (الكونت مونت كريستو) للكاتب الفرنسي الكساندر دوما ومسرحية (هاملت) للكاتب البريطاني وليام شكسبير و(الفتاة الراحلة) للكاتبة الأمريكية كيلان فلن، حيث الأبطال الباحثون عن الانتقام والثأر خارج نطاق العدالة. هناك دائمًا مشاعر تقود الشخصية التي تسعى إلى الانتقام، سواء كانت مدفوعة بالكراهية أو الغضب أو المرارة أو حتى الحب، وقد تستمد الانتقام من أي أو كل هذه الدوافع.
على غرار تلك الأعمال العالمية، تبحر رواية (تمر الأصابع) للأديب العراقي المقيم في إسبانيا محسن الرملي في فضاءات النفس البشرية التائهة بين مفهومين متضادين في الحياة، وهما الانتقام والعدالة، وبين التقاليد والتجديد، والمهجر والوطن. ومن هنا تطرح الرواية جدليات متشابكة، يحاول الرملي تفكيك بعض خيوطها، بينما يترك مواطن أخرى بين العقدة والحل معوّلا على مخيلة وذكاء القارئ للمشاركة في حل شباكها المتداخلة.
تدور مجمل أحداث القصة حول ثلاث شخصيات، وهم (الجد مطلك والابن نوح والحفيد سليم)، الذين يرغبون بالانتقام والثأر لكرامتهم من احد عناصر النظام البعثي الحاكم، بعد أن قتل أفراداً من عائلتهم ظلما. تتوزع أحداث الرواية على مكانين (العراق واسبانيا) وزمانين (الماضي والحاضر) كما ويركز الكاتب على محورين رئيسين يحرك بهما آليات السرد وهما محور الزمن الحاضر (في المهجر، اسبانيا) حيث تعيش الشخصيات فى دولة يحكمها القانون والعدالة ومحور الذاكرة الاسترجاعية في الوطن (العراق) حيث القرية التي يغيب فيها القانون وتحكمها القبلية ونعرات الثأر. فما ان نجد انفسنا في الزمن الحاضر للقصة بمدينة مدريد عاصمة إسبانيا، حتى يأخذنا قطارالذاكرة ألى الماضي، وبالتحديد ألى أحدى القرى النائية في مدينة تكريت الواقعة شمال العراق. يقص علينا بطل الرواية والسارد لمجمل احداثها (سليم، الذي هاجر الى اسبانيا بحثاً عن الامان والحياة الهانئة) يقص حكايا المعاناة والظلم والموت الذي اطبق كابوسا على ابناء قريته من المهمشين ومن لا حول لهم ولا قوة. يخبرنا (سليم) بان تسلط وطغيان السلطة وقتل أفراد من عائلته على يد احد منتسبيها بعد اهانتهم والتنكيل بهم، هي من جملة الأسباب التي دفعته للهجرة وهي نفسها التي خلقت فكرة الإنتقام والثار في وجدان والده (نوح) ودفعته هو الآخر للهجرة الى مدريد بحثاً عن القاتل الذي ابتعثته الحكومة العراقية إلى هناك، املا في إنزال القصاص به ثأراً لأبناء جلدته ووفاءا لعهده الذي قطعه على نفسه أمام والده الحاج (مطلك).
يحمل (نوح) معه سلسلة مفاتيح كان قد صنعها لنفسه في العراق وعلق بها رصاصة مسدس كان قد افرغها من البارود، ترافقه في حله وترحاله. ترمز هذه السلسلة لتصميمه على الأنتقام من القاتل وهي بمثابة تذكار يحثه على التمسك بوعده وتجسيد للعصبية التي ورثها عن اباءه واجداده منذ طفولته التي يلمح لها مشهد يصوراحد اشهرالعاب الطفولة في القرية وهي لعبة الحرب، حيث يتقاتل الصبية فيها بينهم حاملين العصي والأسلحة المقلدة. من هنا يشير لنا الكاتب الرملي بأن الانتقام والثأرمشاعر قد تولد من حادثة معينة لكن التي يشير لها في روايته هي بالأساس مبادئ تعلمها الافراد واكتسبها منذ الطفولة وزرعها في دواخلهم محيطهم الأجتماعي والثقافي ومن هم أكبر منهم سنا. لكن هل من الممكن لمن عشعشت هذه النعرات القبلية في داخله ان يتجاوزها وينفتح على الأخر ويعيش حياة تسامح وصفاء ويلجأ للعدالة بعيداً عن القتل والدم وفكرة الإنتقام ومبدأ العين بالعين والسن بالسن؟ الجواب يكمن في جزء القصة الذي ينقلنا للمهجر.
إن هجرة (سليم ونوح) الى اسبانيا والإنفتاح على الثقافات وأساليب الحياة الأخرى التي يحكمها القانون سهلت بدورها الابتعاد عن إطار العائلة والتقاليد الضيقة وأسهمت بشكل كبير في فك قيود القبلية والعشائرية التي كبلت الروح الانسانية لديهما. فـ(سليم) الذي هاجر لإسبانيا قبل والده (نوح) يمثل صورة الانسان القابل للتطويع والتغيير والمنفتح على ثقافات الآخرين والمتمسك بنفس الوقت بحبه وانتمائه للوطن ولكن باعتدال بعيد عن التعصب والتطرف. نعلم من وجود (سليم) في المهجر، بان الحياة رغم صعوباتها فهي تُري للقادم من قرية صغيرة يحكمها العرف العشائري ويكاد يغيب فيها صوت القانون، تريه الوجه الآخر للعدالة وحقوق الإنسان والنظام. يتغير (سليم) ويتعرف في مدريد على (فاطمة) الفتاة الشرقية التي تذكره بحبيته العراقية ويقرر الارتباط بها وبناء منزل جديد وحياة مختلفة لطي صفحة الماضي الأليم، وهذا يؤكد أهمية المهجر في تغيير نفسية وشخصية الفرد بشكل إيجابي. في الوقت نفسه، يكشف لنا (سليم) بأن تغيرات كثيرة طرأت على شخصية والده (نوح) فهو بالكاد يتعرف عليه حينما التقاه صدفة في ملهىً ليلي في مدريد. كان (نوح) قد غير من تسريحة شعرة وملابسه بشكل يتماشى مع الإسلوب الأوربي العصري وصار صاحب ملهىً ليلي فيه رقص وخمور بعد ان كان رجلاً تقليدياً متمسكاً بالموروث القبلي والعشائري. يبدو لنا من هذا التغيير في شخصية (نوح)، أن المهجر قد ترك بصمته وغير شخصيته وطريقة تفكيره وباعد بينه وبين فكرة الثأر والدم. يتأكد هذا التغيير في آخر الرواية، عندما يقرر (نوح) الإنتقال إلى ألمانيا ويسلم ابنه (سليم) المفاتيح المعلقة بالسلسة، ولكن من دون الرصاصة التي طالما كانت ترافقه. وبالفعل، يقرر (نوح) في نهاية القصة الانتقال إلى ألمانيا مع صديقته الأجنبية ( روسا) التي التقى بها في مدريد، لكن الكاتب يفاجئنا بأن القاتل هو الآخر قد تم نقله للعمل في السفارة العراقية في ألمانيا حيث ينوي (نوح) الانتقال.
عند هذه النهاية المفتوحة، تكمن عبقرية كاتبها، الذي يمنح القارئ مساحة للتأمل والتفكر والتساؤل: هل سيستمر (نوح) في طريق الانتقام الذي يبدو كالقدر الأسود الذي لا ينفك عن ملاحقته، كلما حاول نسيانه والابتعاد عنه مكانيا وفكريا، لكنه يعود ليلاقيه وجهاً لوجه؟. هل تنهي صفحة الماضي التي نظن أنها طويت، وأن البطل قد تصالح مع ذاته وتعلم التمدن والنظام واحترام القانون وقيمة التسامح؟.
وكما هو حال الكثير من الروايات العربية، وخصوصا روايات المنفى وما بعد الحرب وسقوط الأنظمة، تركز رواية (تمر الأصابع) الضوء على مواضيع أخرى كالحب والسلطة والحرب والهوية والشتات وحجم المعاناة النفسية التي يتطلبها بناء حياة جديدة مع الإبقاء على ذاكرة مثقلة بالهموم وأحمال الوطن ونظام قمعي واحتلالات ودمار. شكلت كل تلك الأحداث ملامح وتاريخ الشخصيات ورسمت صورة الحاضر وتنبأت حتى بالمستقبل.
في الختام، ربما يتسائل القارئ عن الرابط بين كل هذه الأحداث المؤلمة والحزينة من قتل وثأر وشتات وبين عنوان الرواية (تمر الأصابع). يكمن الجواب بين ثنايا الصفحات وبين السطور، فبين الفينة والأخرى تُستحضر فاكهة التمر ذات الخصوصية التاريخية والثقافية عند سكان العراق الشهير بزراعتها والفخور بإنتاجها. يربط الرملي بين هذه الفاكهة الحلوة وبين عاطفة الشخصيات وتذكر العراق، فهي تعمل أيضا بمثابة رمز تذكير دائم بجذور تلك الشخصيات لوطنها الأم وحبها القديم.. وربما هي رمز الانتقام، لأن شكل التمر يذكرنا برصاصة المسدس التي حملها (نوح) معه في رحلة الانتقام، وحلاوتها هي كحلاوة التسامح والتصالح مع الذات والآخر. في وسط هذا الكم الهائل من الصور والذكريات والأحداث البعيدة والقريبة، أجد أن الرواية هي بحق كما وصفها الشاعر والكاتب الإسباني مانويل رينا في صحيفة الآي. بي. ثي. بأنها (رواية مشحونة بالعاطفة، بديعة باستحضاراتها وحنانها وتمتاز بقدرة كبيرة على رسم التناقضات ونقاط الاختلاف والتلاقي بين ثقافات الغرب والشرق.. إنها بحق هدية للفكر والحواس).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*فرح محمود الراجح: باحثة وأكاديمية عراقية، تقيم في لندن.
*نشرت في موقع (الناقد العراقي) بتاريخ 27/3/2018م.

ليست هناك تعليقات: