الأربعاء، 25 فبراير 2009

حوار 2003 / خالد كاكي


حوار مع الكاتب العراقي محسن الرملي

بمناسبة نيل الترجمة الإنكليزية لروايته (الفتيت المبعثر )
على جائزة ( أركنسا الأمريكية) للكتاب العربي

حاوره في مدريد / خـالد كاكي

س/ هل يحن محسن الرملي إلى عراقٍ ما.. ليكتب بلغة أخرى؟.
ـ حنيني إلى العراق يكاد يشكل في روحي حالة مرَضية، فقد كنت أحن إلى (عراق ما) حتى وأنا داخل العراق نفسه.. ويبدو أنني سأبقى مصاباً بهذا الحنين حتى موتي، سواء بقيت بعيداً عنه أو عدت إليه. أما عن اللغة فإنني أحاول بوعي أن أجعل لكل نص أكتبه لغته الخاصة به، أسعى إلى عدم تكرار نفسي أو لغتي ذاتها في كل نصوصي وإلا فما فرق نص جديد عن آخر سابق له إذا لم تكن اللغة مختلفة؟ ذلك أن النص القصصي ليس مجرد حكاية.. أدرك بأن مسعاي نحو الاختلاف عن نفسي في كل نص جديد هو نوع من المغامرة.. أي تجريب أسلوب آخر غير الذي نجحت فيه.. ولكنني على استعداد لتقبل الاخفاقات أيضاً بدل الركون إلى أسلوب واحد.
س/ ظهر مصطلح (نص) إلى سطح الشعر منذ وقت غير قصير، فقيل (نثر شعري ) و(شعر منثور).. هل لقصتك (نص) ها أيضاً، بعيداً عن قوالب الرَوي المعروفة؟.
ـ إن مصطلح ( نص) قد جاء بالنسبة لنا (رحـمة) إذا جاز التعبير، لأنه يزيح عن كاهلنا إشكاليات التسميات التقليدية، ويتيح للكاتب العمل بحرية وصدق دون التفكير بالخضوع إلى قوالب مدرسية سالفة ويفتح آفاق التجريب، وفيما يتعلق بالقصة رافق هذا المصطلح تسمية (قص) أيضاً، وهو أكثر اتساعاً من القصة ذلك إن كل شيء هو (قص) بالنسبة لي، الحديث اليومي والمكالمة الهاتفية وعلاقات الكلمات ببعضها وحتى علاقات الأشياء ببعضها البعض. إننا طوال اليوم نروي عشرات القصص وأرى كل إنسان بـمثابة مجموعة قصصية تمشي على قدمين.. دائماً ثمة بؤرة حكائية في كل ما نقول وما نسلك وما نكتب بما في ذلك الشعر، فإننا نجد في كل قصيدة بذرة حكائية وأحياناً نجدها حتى في الجملة الواحدة.. وهكذا فمع كل ما يتيحه مصطلح (نص) أو (قص) فإننا دائماً بانتظار مصطلح آخر أكثر منه سعة وانفتاحاً، وسيظهر حتماً.. لنقوم بانتظار غيره وهكذا ، لأن طبيعة الإبداع تتطلب ذلك.. التطلع للجديد والتوسع والابتداع والتجاوز.. كل هذا جزء من روحيته.
س/ بحكم إقامتك ما يقرب من عشرة أعوام تقريباً في أوربا (أسبانيا)، هل رأيت الأدب العربي يتصدر واجهات المكتبات.. أو قوائم (الأكثر مبيعاً )؟.
ـ لا للأسف، فالكتاب العربي يكاد يكون غائباً تماماً عن واجهات المكتبات الغربية.. بل وحتى غائباً عن رفوفها الخلفية. فالكتب التي تتناول قضايانا الأدبية والإسلامية، هي ما يكتبونه هم أنفسهم عنّا. وعلى صعيد الأدب فحتى نجيب محفوظ لم يستطع – بعد جائزة نوبل- احتلال واجهات المكتبات.. إنهم في الغرب يرون ما يريدون، لذا فإن الناجح من الأدب العربي بينهم هو ذلك الذي يأتي وفق رؤيتهم أو يأتي عن طريق قنواتهم وجوائزهم ومثال ذلك أمين معلوف والطاهر بن جلون اللذان يجيدان مخاطبة القارئ الغربي ويعرفان كيف يـمسان ذهنيته وذائقته.
س/ إذن تعتقد أن الكتابة بالأسبانية مثلاً كانت ستفتح لك أفقاً أو كوّة لتعرّف القارئ الأسباني بثقافتك العراقية والإنسانية بشكل عام؟.
ـ كما تعلم فإن أسبانيا جزء من الغرب الذي تؤثر فيه وسائل الإعلام والأحداث التي تبرز في الأخبار، مثال ذلك إنهم راحوا يبحثون عن أي كتاب أفغاني لكي ينشروه أيام الحرب على أفغانستان. إن الكتاب هنا خاضع لحركة السوق اليومية المتسارعة وهذا شيء مؤسف. إنهم لا يتذكرون ولا يتساءلون عن الأدب العراقي مثلاً، إلا عندما يصبح العراق محط أنظار العالم لتوقع حرب ضده.. هذا ما يحدث فعلاً للأسف فعلى الرغم من أنني أعيش في أسبانيا منذ عشر سنوات والعراق يعاني خلالها حصاراً وقحاً إلا أنهم لم يترجموا عن أدبه شيئاً، فيما تتصل بي الآن أكثر من دار نشر لطبع نصوصي. إذاً فكما ترى لم يكن المعيار ثقافياً أدبياً بحتاً وإنما هو السوق، الأمر الذي لا يجعلني أثق بتقييم من هذا النوع وإنما أسعى إلى مدخل آخر لطرح أعمالي بالأسبانية يرتكز بالأساس على خصوصيتي الثقافية كعراقي وعلى خصوصية كتابتي كأديب يعالج قضايا إنسانية. الإبداع الحقيقي سيفرض نفسه في نـهاية الأمر مهما كانت اللغة التي يكتب بها، ومسألة الصدق جوهرية جداً عند القيام بأي عمل لأنها المدخل الحقيقي للوصول إلى الآخر وكسب ثقته.. لذا لا أتفق مع أولئك الذين يقومون بالافتعال في محاولاتهم للتكيف وفق رؤية الآخر عنا، أي يكتبون ما يريده الآخر وما يعزز رؤيته السابقة عنا، وإنما أرى بأن نواصل اقترابنا من أنفسنا أولاً ونتعامل مع قضايانا ومناخاتنا وثقافتنا بصدق حقيقي وأن نكتب ونصف همومنا وأحلامنا دون التفكير مسبقاً بأن قارئاً أجنبياً سيقرأنا.. وهذا الأمر ـ كما هو معروف ـ هو ما نسميه بالمحلية التي تقود إلى العالمية، فماركيز مثلاً لم يكن يفكر بالقارئ الفرنسي أو الأمريكي عندما كتب مائة عام من العزلة وطاغور كان يتنفس الهواء الهندي في كتاباته.. وهكذا فإن صدقنا مع أنفسنا وكتابتنا عما نعرف هو المهم وهو الذي سيرسم هويتنا الخاصة وبالتالي يمنحنا قيمتنا وثقلنا الحقيقي.. أي أن نقدم للآخر رؤية مختلفة للأشياء، وإلا فماذا يعني أن تكتب رواية تدور أحداثها في مدريد وبطلها أسباني له همومه الأسبانية؟. وحتى لو حاولت ذلك.. فما الجديد الذي ستقدمه؟ مهما حاولت فإنك لن تكتب عن الأسباني كما يكتب الأسباني عن نفسه.
س/ كيف الدخول إلى قلب وعقل الفرد الغربي من خلال الكتابة بالعربية؟.
ـ الغالبية من القراء الأسبان هم من النساء وهن عادة ما يتأثرن بالإعلانات وبالموضة ويبحثن عن الأعمال غير العميقة أي تلك التي يمكن قراءتـها في المترو وفي الباص وعلى ساحل البحر في العطلة، لذا تجد أكثر الروايات مبيعاً هنا هي التي تتناول قضايا الحب والتفاصيل الحياتية اليومية.. وما تكتبه النساء أكثر مبيعاً من كتابات الرجال. وفيما يتعلق بقراءة الأدب العربي فهي تكاد تكون معدومة باستثناء روايات الـ(بيست سيلر) لأسماء غير معروفة تتناول عالم الحريم والنساء المضطهدات والمغتصبات في الشرق.. وهي أعمال ليس لها قيمة أدبية حقيقية، وعندما تُحدث الأسباني عن الأدب العربي سيذكر لك (ألف ليلة وليلة) ولكنهم لم يقرأوها ولا يعرفونها حقاً باستثناء ما كونوه عنها من أفكار عبر الحكايات الشعبية وأفلام سينما الستينات. إنه أمر مؤسف يا أخي فلا بد من تحرك ما، أو البحث عن صيغة نضع من خلالها أدبنا في متناول القارئ الغربي.. وهنا أعني مسألة الإنتاج والتوزيع والترجمة والإعلام.. أكثر مما أعني النص الأدبي كإبداع، فلدينا أعمال مهمة جداً ورائعة في ثقافتنا العربية.
س/ علمت إنك تعد رسالة دكتوراه عن أدب (ثيرفانتس) في جامعة مدريد المستقلة، وبالتحديد (التأثيرات الإسلامية في رواية دون كيخوته).. ما هي حقيقة الأصول أو (المسودة) العربية لهذه الرواية؟.
ـ كل الدراسات (الثربانتية) تتفق على أن مسألة المخطوطة العربية لـ(سيدي حامد) التي أشار إليها (ثيربانتس) في روايته إنما هي مجرد تقنية أدبية أعتمدها في بناء عمله وهي تقنية كانت سائدة في آداب القرون الوسطى، وحتى الآن لم تظهر أية دراسة تؤكد عكس ذلك. ثم أن (ثيربانتس) سجل في روايته الكثير من حياته الشخصية هو. عدا هذه المسألة فقد توصلت في بحثي إلى نقاط تأثير كثيرة للثقافة الإسلامية والعربية في (الدون كيشوته) سأطبعها لاحقاً في كتاب.
س/ هل حلمت ببغداد هارون الرشيد والمأمون؟ وهل ترى إن الكاتب آنئذ كان يكتب بحرية؟.
ـ ما أحلمه دائماً لبغداد هو السلام لتكون داراً للسلام حقاً وليس بالاسم فقط، وأحلم أن نقيم في بغداد ، على شاطئ دجلة مدينة متكاملة فيها مبان وأجواء ألف ليلة وليلة.. شيء ما شبيه بمدن (والت دزني) يدخلها الزوار بالملابس العراقية القديمة ويتعاملون فيها بعملة خاصة وفيها سوق للوراقين ومسارح ومكتبات بحيث أن من يدخلها وكأنه يلج زمناً آخر.. صدقني ستكون قبلة للسياحة من كل أنحاء العالم. أما عني ككاتب فلم أحلم بأن أكون من ذلك العصر لأنني راض بكوني أبن عصري هذا، على عِلاته، ولا أعتقد بأن الحرية قد كانت مطلقة آنذاك لأنها لم ولن تكون كذلك في أي مكان من العالم.. دائماً ثمة ممنوعات سواء سياسية أو دينية أو اجتماعية أو ثقافية.. فكم قمعوا من الثورات آنئذ وقتلوا شعراء وأإمة.. الحرية المطلقة لا وجود لها حتى في أمريكا اليوم.
س/ في روايتك (الفتيت المبعثر) والتي هي مأساة عائلة العراق الكبيرة، لازمت شخصية (الإنكليزي) صفة (ابن الكلب) لأنه غازٍ ومحتل .. هل (الإنكليزي) بالنسبة لك (منقب آثار بلا شارب) أو (ابن كلب) دائماً؟.
ـ هذه التسمية جاءت في روايتي على لسان الأب فقط، وهذا الأب فيه الكثير من أبي الذي حارب الاستعمار الإنكليزي، وظل يردد حتى مماته:" كل مشاكل العالم من تحت راس الإنكليز..". والأب هنا هو عيّنة تمثل شريحة وجيلاً كاملاً في بلداننا.. أما نحن الآن فندرك هذه العلاقة ونفهمها بشكل آخر ونشخص معاناة أهلنا حتى اليوم بسب الضغط الغربي علينا واستخدامه للمعايير المزدوجة. إننا نعرف الغربي أكثر مما كان يعرفه آباؤنا لذا فنحن نتعامل معه بشكل مختلف لا يتوقف على شتمه فقط، ولا ننكر بأننا قد تعلمنا الكثير وما نزال من الثقافة الغربية.. ولكننا في الوقت نفسه لسنا بغافلين عما يفعله بنا.. ونسعى إلى تعريفه بخصوصيتنا الثقافية وإلزامه باحترامها.
س/ في خضم السوء الفهم الكبير الذي يلف العالم تجاه العرب والمسلمين.. هل تعتقد أن شخصية المسلم الأصولي تنفع شخصية محورية في رواية؟.
ـ أعتقد أن كل إنسان وكل كائن يصلح لأن يكون محور رواية. وشخصية المسلم الأصولي ستكون حتماً ثرية جداً بسلوكياتها وأفكارها وصراعاتها الداخلية ومع المحيط. أستغرب يا أخي أننا لم نجد في أدبنا المعاصر كاتباً يتناولها بعمق وعن قرب ومن الداخل على الرغم من أننا نعيش معها وهي جزء منا. لماذا لم نجد كاتباً يلتفت إليها كما فعل (نيقوس كازانتزاكي) في تناوله لمواطنيه المتدينين؟ إنه قدمهم بقوة وثقة وإنسانية.. لماذا نشيح بوجهنا عن تفحص هذه العينة من واقعنا؟.. إنني أستغرب بأن مثقفينا يترفعون عن تناول شخصيات كهذه وإذا أشاروا إليها يصورونها سلبية ومتخلفة وساذجة.. فيما أن في الواقع ما يدل على العكس من هذا القالب الذي نفرضه على شخصياتنا المتدينة في رواياتنا. لماذا يتناولها الكاتب الغربي بموضوعية وانفتاح واحترام، فيما نشعر نحن تجاهها بحساسية غريبة تصل بنا إلى حد إنكار وجودها؟.. أتمنى أن أكتب عن شخصية من هذا النوع وطبيعة تعاملها مع عصرنا الراهن.. شخصية شبيه بتلك التي رسمها (كازانتزاكي ) وآمل أن أتمكن من ذلك مستقبلاً.
س/ حدّثنا عن مجموعتك القصصية الجديدة التي تتمحور حول مفردة (القصف).. وهل ستنتظر قليلاً لنرى ما يعده الأمريكان للعراق فتكمل المجموعة؟.
ـ لا يحتاج هذا الأمر للانتظار كي نشهد عليه، فالقصف بمختلف أشكاله قد رافق البشرية منذ البداية وسوف يستمر حتى نهايتها.. وربما تكون النهاية تحت القصف. أما العراق فلم يعش عبر تأريخه الطويل عشر سنوات متواصلة في سلام.. لقد جاءت فكرة هذا الكتاب كمحاولة لفهم العالم وفق النظر عبر مفردة واحدة من مفرداته، لذا أجرب فيه خلط ما هو تأريخي بما هو معاصر وما هو خيالي بما هو واقع. أتبع فيه أحياناً (الكولاج السردي) واللغة الصحفية والأرقام والمصادر.. إنها تجربة تحاول أن تكون مختلفة عن السائد في صيغة المجاميع القصصية التي نعرفها و أحاول فيها استثمار أوسع ما يتيحه لنا فن القص من إمكانيات في التجريب.. لذا، فلهذا الكتاب خصوصيته التي آمل أن تكون جديدة نوعاً ما وأن تحظى باهتمام القارئ.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشر في موقع (ألف ياء) التابع لصحيفة الزمان بتاريخ 23/1/2003 لندن. وفي موقع (كتابات) بتاريخ 25/1/2003م. وفي صحيفة (الاتجاه الآخر) العدد 102 بتاريخ 1/2/2003 العراق.

ليست هناك تعليقات: